في أزقة غزة القديمة تنبض الحجارة بأحاديثها التاريخية، فتخبر الزائر عن القصص المعلقة بين الجدران، والتي تغيرت ملامحها تدريجيًا مع ازدياد الزحف العمراني، وازدحامها بكثافة المدينة السكانية، ولكن، هناك من أصر على بقاء الحجارة القديمة، وخاض معركة أخرى خوفا على تاريخها من الاندثار، فآثر أن يشتري تلك الحجارة ويعيد لها روح القدم لتبقى قصتها خالدة حتى اليوم.
هذا ما فعله الدكتور عاطف سلامة، في بيت الغلاييني الأثري، بعد أن خاض معركة لشرائه بماله الخاص، ثم ترميم الحجارة التي كانت مهددة بالسقوط لتدب فيه الروح بعد عناء طويل وتعود الجدران القديمة إلى عهدها.
كان لنا زيارة إلى بيت الدكتور عاطف، لنتعرف على رحلته التي أعادت التفاصيل التاريخية إلى مكانها.
يقول د. سلامة: خضت منافسة لشراء هذا البيت مع التجار المهتمين بشراء هذه البيوت، والبيت من ممتلكات عائلة الغلايني، وهي من العائلات العريقة في غزة وكان كل سكان الشارع من نفس العائلة، وبعد ذلك بيعت البيوت لتجار عقارات، والعائلة تفرقت منها من هاجر أو انتقل ومنها من غير مكان سكنه.
ويعد البيت الذي يعود تاريخه العصر العثماني وعمره 430 عامًا، كمعظم بيوت غزة القديمة التي بنيت على أعلى منطقة في المدينة لرؤيتها من فوق، لذا كانت تمثل صورة جميلة للتاريخ القديم، ثم هجرها أصحابها، فبقيت خالية تحتاج الى رعاية واهتمام.
يضيف د.سلامة: تمسكت بالبيت من النظرة الأولى ونجحت في امتلاكه، وقد استغرب كثيرون اهتمامي بشراء بيت متهالك الجدران لا يصلح لشيء، ولكني تخيلت الصورة التي سيكون عليها قبل أن أبدأ بالترميم، وتحت إصرار وعشق للصورة التي رأيتها في مخيلتي بدأت دون أن أراعي أو حتى أفكر في التكاليف الكثيرة التي تلكفتها في ترميمه.
وبالنظر إلى تقاسيم البيت يمكننا ان نبدأ بوصف الصورة من جدار البيت الخارجي حيث يقول د. سلامة مشيرًا إلى جدار المنزل الخارجي: قمت بتصميم مجسم لخريطة فلسطين بطول 12 مترًا، مستعينًا بحجارة قديمة، وتعد أطول خريطة محفورة لفلسطين.
وتبدأ التفاصيل الأخرى من باب المنزل الحديدي الذي يحمل تصميما قديما أيضا بالإضافة إلى أنه مطعم بالدبابيس الكبيرة على هيئة زهرة اللوتس وفي أعلى الباب شرفة أو ماتسمى " شريعة" تطل على الشارع، كانت تنظر منها النساء لمعرفة الزائر قبل فتح الباب.
والجميل في المكان أن جميع التصاميم والأفكار من وحي وخيال سلامة، بعد ما جمعه من خبرات من خلال بحثه الدائم عن الديكورات الأثرية وطرق ترميم البيوت القديمة، واكتشاف أفكار جديدة لوضعها في منزل الأحلام.
وفي التفاصيل الأخرى، يمكنك أن تدخل مباشرة إلى ما أسماه د. عاطف أرض الديار التي تتكون من بركة ماء، أو ما تسمى " بحرة" لتزين أرض الديار، وبئر الغلة الذي ما زال على حاله، لتخزين المونة والغلال والحبوب، تفتحه فتنزل بالنظر الى عمق خمسة أمتار، ويقول عنه د. سلامة: اكتشفناه أثناء التنقيب والترميم، واجتهدت أن يبقى على حاله كصورة تراثية وهي غرفة كأي غرفة، مبنية بنفس طراز غرف البيت.
وتطعم أرض الديار بنبات الزينة، فتعلو الحائط شجرة ياسمين فواحة بالإضافة الى بعض شتلات اللبلاب المتسلقة، مع كثير من النبات الأخرى التي يعتني بها الدكتور سلامة وأسرته، كما أنه يربي أنواعًا مختلفة من العصافير التي تحلق في أرض الديار بكل حريتها.
والمميز في البيت هو ما يعطيه للعائلة من خصوصية حيث أن جميع نوافذه تطل على أرض الديار، لتكون مملكة خاصة دون أن يكشفها أحد من الجيران، ومع السقف العالي المفتوح الذي يسمح بتجدد الهواء.
ويضيف د. سلامة: أرض الديار منخفضة عن مستوى غرف البيت وتستقبلها زاوية الإيوان التي نستقبل فيها الزوار، كما في عادات البيوت القديمة، ولكنها ليست المكان الوحيد لاستقبال الضيوف فهناك مضافة أخرى تسمى القاعة وتحتوي في جدرانها على فتحات على شكل قباب منحوتة تحوي النوافذ وهذه الفتحات أشبه بالرف الذي تضع عليه ربة البيت سراجها أو أغطية ووسائد البيت.
يذكر أن هذا البيت المبني على مساحة 180 مترًا له جزء علوي يحتوي غرفة المعيشة وغرف النوم بالإضافة الى المطبخ والحمام، وبهذا ينفصل الجزء الأسفل لاستقبال الضيوف فقط.
ويلاحظ الزائر أن نوافذ البيت ملونة على الطراز القديم، وهي ليست أثرية كما يقول الدكتور سلامة حيث قال: إنه أتى بها من مصر مع كثير من الخامات الأخرى التي لم تكن موجودة في القطاع ، قائلا في نهاية حديثه: عندما اشتريت البيت كان مهجورًا، عبارة عن جدران قديمة فقط ، فرممت كل شيء بدءًا بالنوافذ والأرضيات والجدران حتى أصبح كما ترونه اليوم، كما استعنت بالخامات القديمة كالفخار والكرارة وأنواع من الحصى والرخام المطحون .
والجدير بالذكر أن الدكتور عاطف سلامة يعمل أستاذا للإعلام في عدد من الجامعات الفلسطينية ويزوره كثير من المختصين في علم الترميم والأثار لاستشارته في هذا الفن لما يحمله من خبرات بعد هذه التجربة السخية.
كما يقيم الدكتور عاطف مع زوجته وأبنائه الأربعة في المنزل، ولا يفكر بالرحيل ولا تغيير المكان، وينوي أن يظل هذا البيت مزارا سياحيا لكل من يزور غزة ليتحدث عن جمالية التاريخ القديم والبلدة القديمة التي غيرتها الظروف والحروب واحتياجات الناس المختلفة.