قائمة الموقع

مقال: الموقف التركي من فلسطين بين المأمول والواقع

2017-02-03T18:39:12+02:00
الموقف التركي من فلسطين بين المأمول والواقع
بقلم: صابر كل عنبري

 

منذ أن فاز حزب العدالة والتنمية التركي في الانتخابات البرلمانية عام 2002، تفاءل الفلسطينيون ومعهم مؤيدوهم من العرب والمسلمين وأحرار العالم أن تركيا الحديثة في عهد منشد "مساجدنا ثكناتنا قبابنا خوذاتنا مآذننا حرابنا والمؤمنون جنودنا هذا هو الجيش المقدس الذي يحرس ديننا"، ستكون حارسة لفلسطين وقضيتها، وهذا بعث على التفاؤل لدور مستقبلي مهم لتركيا في هذه القضية.

وبعد فترة من مجيء العدالة والتنمية، ظهرت مؤشرات حول وقوع تحولات في السياسة التركية في التعامل مع القضية الفلسطينية، والانتقال من الدور السلبي إلى دور إيجابي يخدم هذه القضية. تعززت تلك المؤشرات بمواقف، لاسيما بعد حرب 2008 و2009 على قطاع غزة، حيث رفع مشهد احتجاج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على كلمة رئيس الكيان الصهيوني "شمعون بيرز" في مؤتمر دافوس في 29 يناير 2009 أسهمه في العالمين العربي والإسلامي إلى السماء، ثم ارتفع معه سقف التوقعات من السياسة التركية تجاه القضية الفلسطينية، لدرجة تحدث البعض عن الرئيس أردوغان أنه صلاح الدين الثاني الذي سيحرر القدس وفلسطين من الاحتلال الصهيوني. حينئذ لو كان ينوي أردوغان الترشح في الانتخابات في أي دولة عربية، لكان قد حقق فوزاً ساحقاً على غرمائه، أمثال عمرو موسى الذي وقف موقف المتفرج في دافوس، ولم يفعل شيء سوى التصفيق لأردوغان.

ثم، تلاحقت المؤشرات الإيجابية، مثل استشهاد المتضامين الأتراك في واقعة مهاجمة الجنود الإسرائييلين على أسطول الحرية وسفينة مرمرة التركية، واستدعاء السفير التركي من تل أبيب وطرد السفير الإسرائيلي من أنقرة، وتصاعد نبرة الخطاب التركي تجاه "إسرائيل"، جملة هذه الأحداث والمواقف أوصلت شعبية تركيا وأردوغان في العالمين العربي والإسلامي إلى ما لا يمكن تخيله. ثم، على وقع ذلك، قد تحقق نفوذ ناعم لتركيا في قلوب العرب والمسلمين، نفوذ لا يأتي بالمال والقوة الصلبة التي تسعى له قوى دولية وإقليمية.

طبعا، إلى جانب تلك المواقف من القضية الفلسطينية، ساهم عاملان آخران في إيجاد هذه الشعبية، الأول، حجم التقدم والتطور الكبير الذي حققه العدالة والتنمية في تركيا بشكل كبير، والحكم الناجح للعدالة والتنمية كنموذج طالب الكثيرون بالاحتذاء به في العالم العربي. والثاني، الموقف التركي المؤيد للثورات وتطلعات الشعوب العربية.

بعد هذا المسار الرابح، وفي ظل قراءة تركية للتطورات الإقليمية، توصلت الدولة التركية مع "إسرائيل" حزيران 2016 إلى اتفاق لإعادة تطبيع العلاقة- غير المقطوعة أصلاً- وإعادة السفراء بعد جولات مكوكية من المفاوضات، لم يتحقق فيها الشرط التركي الأهم، وهو رفع الحصار عن قطاع غزة. تلاحقت مؤشرات تراجعية أخرى بعد هذا التراجع التركي، تمثلت في إطلاق تصريحات ومواقف تتناقض مع السياق المعهود المعلن خلال السنوات الماضية، منها:

ـ تصريحات الرئيس أردوغان عن المسجد الأقصى المبارك في مقابلته مع القناة الإسرائيلية الثانية، التي اعتبر فيها أن المسجد الأقصى مكان مقدس لليهود والمسلمين والمسيحيين.

ـ التنديد بعملية القدس الأخيرة التي قتل فيها 4 جنود إسرائيليين من قبل رئيس الوزراء التركي، وثم استخدام نائبه أقصى عبارات تنديدية واعتبارها "إرهابية"، و"حقيرة"

ـ تصريحات السفير التركي في تل أبيب، التي قال فيها «يمكننا فقط أن نأمل فى أن نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، الذى كشف الرئيس الأمريكى الجديد دونالد ترامب، لن يضر باحتمالات السلام»

المتابع للسياسة التركية عند مواجهته هذه المواقف، يقف أمام تناقض ولغز كبير، البعض يلجأ إلى سلاح التبرير لحل هذا اللغز، حيث يعزون هذا التناقض إلى المخاطر التي تواجهها الدولة التركية في هذا الظرف الإقليمي الصعب، ومن هذا المنطق، يجيزون لها إدارة المرحلة بالطريقة التي تراها مناسبة، ومن خلال إطلاق تصريحات ومواقف كهذه، درء للمفاسد والأخطار، وتحقيقاً للمصلحة العليا للبلاد والعباد.

وآخرون، ومن منطلق معارضة كل ما يرتبط بالإسلام السياسي، لديهم أحكام مسبقة جاهزة، يستغلون مثل تلك التغيرات في الخطاب التركي تجاه القضية الفلسطينية في سياق عداواتهم التاريخية مع مدرسة الإسلام السياسي، حيث يهاجمون من خلالها الدولة التركية بشكل غير موضوعي لا يمت بصلة للحرص على القضية الفلسطينية. فلا يأخذ برأي هؤلاء كثيرا، لأن الأسباب التي يقدمونها لمثل هذه التغيرات لا تخرج عن سياق "الخيانة"، و"العمالة"، وما شابه ذلك.

بين هذا الرأي وذاك، تبدو المشكلة في فهمنا لطبيعة السياسة التركية تجاه القضية الفلسطينية من الأساس، حيث أخذتنا التصريحات والمواقف التي غلب عليها البعد الإنساني إلى قراءة خاطئة لهذه السياسة، ورفعنا من خلالها سقف التوقعات لدى أنفسنا وعامة الناس أن هذه المرة المحرر المخلص سيأتي من تركيا.

لفهم هذه السياسة، لا بد أن نعود إلى الوراء إلى عام 2003، حيث طالب الرئيس أردوغان في مقال له بصحيفة الغاردين البريطانية، حركة حماس بالجلوس مع الإسرائيليين على طاولة المفاوضات، مما استدعى ذلك تحرك سريع من قيادة حركة المقاومة الإسلامية "حماس" لزيارة تركيا والجلوس مع القيادة التركية وعلى رأسها الرئيس أردوغان لتقديم شرح تفصيلي لطبيعة القضية الفلسطينية، والتأكيد أن التفاوض مع الاحتلال الإسرائيلي تجربة فاشلة قامت بها السلطة الفلسطينية وأن هذه الرؤية لا تنجح في التعامل مع المحتلين، ولا تعيد الحقوق لأصحابها.

ما جاء في هذا المقال، والتصريحات والسياسات التركية بعده إلى اليوم، ينبع من رؤية حزب العدالة والتنمية الحاكم للصراع في فلسطين، التي تتطابق في أسسها مع رؤية الأمم المتحدة لهذه القضية، ولا تتجاوز السقف الأممي وهو حل الدولتين، في سبيل إنصاف الحق الفلسطيني.

في المقابل فإن مسار العلاقات التركية الإسرائيلية في عهد حزب العدالة والتنمية، يؤكد إن هذه المواقف ليست مجاملات دبلوماسية رسمية، بل هي قناعات فكرية تندرج في سياق الرؤية التركية تجاه إسرائيل، وعنوانها الرئيس، القبول والاعتراف بإسرائيل كدولة في الحدود المعترف بها أممياً وفق قرارات الأمم المتحدة، مما تنبني على ذلك جملة أمور تحدد ملامح السياسة التركية وسلوك أنقرة في هذا الخصوص تحت سقف محدود حدوده الأراضي المحتلة عام 1967.

ووفق هذه الرؤية التركية، فالحقوق الفلسطينية لا تتجاوز هذا السقف كذلك. بالتالي ما عدى ذلك قد يعتبر اعتداء على ما تُعد وفقها حقوق إسرائيلية، وانتهاكا لها، ومن هنا لا ينبغي لنا أيضاً كمتابعيين أن تتجاوز توقعاتنا للسياسية التركية تجاه القضية الفلسطينية هذا السقف.

في سياق آخر، تنزلق العلاقات التركية الإسرائيلية دون سقف الرؤية التركية للقضية الفلسطينية، وتجعلها أحياناً أقل من السقف الأممي ، فعلى سبل المثال، لو نظرنا إلى التنديد التركي بعملية القدس الأخيرة ضد العسكرين الإسرائيليين، من منطلق القوانين الدولية التي تعتبر القدس الشرقية منطقة محتلة، تكون مثل هذه العمليات جائزة ومشروعة، لكن رغم ذلك جاء التنديد التركي، وهذا يعني أن مثل هذا الأمر يأتي حتى أدنى من السقف القانوني الأممي، والصدمة والخطورة هنا. وكذلك الأمر في موضوع احتمالية نقل السفارة الأمريكية لتجد أن الموقف التركي أقل حتى من الموقف الغربي الأوروبي.

أما على صعيد المساعدات الإنسانية التركية المشكورة، والمساهمات في تخفيف معاناة الشعب الفلسطيني، وخاصة المحاصر منه في غزة، فهو يأتي في إطار العمل الإنساني الدولي المتراجع نسبياً على صعيد المؤسسات الدولية والأممية.

الخطورة في هذه الرؤية أنها تتعامل مع القضية الفلسطينية من منطلق فهم محدود كأنها قضية مماثلة لنظام التمييز العنصري الآبارتهايد في جنوب أفريقيا، بينما الحقيقة أن المشكلة تكمن في عدم المعرفة الدقيقة للفكر الاستعماري الإسرائيلي، حيث جاء مستعمرون من أكثر من 100 دولة في العالم، ليسيطروا على الأرض الفلسطينية بالحروب والنكبات. لذلك أي رؤية سياسية مساندة للشعب الفلسطيني لا تنطلق من هذا الفهم الدقيق للعلاقة بين المستعمر أو المستعمرين وبين من هم تحت الاستعمار، تبقى رؤية ناقصة، لا يمكن أن تنتهي إلى دحر الاحتلال الاستعماري وتحرير الشعب القابع تحت هذا الاحتلال. وإنما ما يقدم من مساعدات ومواقف سياسة مؤيدة على أساس هذه الرؤية الناقصة، رغم أهميتها الكبيرة ومساهمتها في تمكين الشعب الفلسطيني، إلا أنه في نهاية المطاف ليس إلا تحسين لظروف اعتقال شعب سجين بكامله، ولا يخرجه من هذا السجن.

لعل ماهاتما غاندي الذي عايش الاستعمار البريطاني في الهند، يعرف جيداً مفهوم الاستعمار والاحتلال لفلسطين، حيث يقول: «أنا كل عواطفي مع اليهود، لكن عواطفي هذه لا تعميني عن رؤية متطلبات العدالة، فلسطين تعود للعرب بنفس المفهوم الذي تعود فه بريطانيا للبريطانيين.»

خلاصة القول أن السياسة التركية نحو الصراع في فلسطين تشهد منذ وصول العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 تحولات نقلت الدور السلبي التركي المتصف بانحياز للكيان الصهيوني إلى دور إيجابي لصالح الفلسطينيين، لكنه تحت سقف محدد لا يتخطى السقف الدولي، حيث جاءت هذه الإيجابية في استغلال الفرص والإمكانيات التي من الممكن الاستفادة منها تحت هذا السقف لصالح الفلسطينيين، هذا ما لم تفعله الحكومات التركية قبل عام 2002. لذلك، لكي لا نتفاجأ أحيانا بمواقف وتصريحات، يجب أن تكون توقعاتنا للسياسة التركية تجاه القضية الفلسطينية لا تتجاوز هذا السقف.

أما على صعيد حركات المقاومة فمن المناسب أن تصل إلى تفاهمات مع القيادة التركية بأن لا يستغل سكوتهم المبرر بالتحالفات القائمة سياسياً، في تبرير المواقف التركية تجاه اسرائيل والقضية الفلسطينية، وأن يتم التوصل إلى سياسة يكون فيها مفارقة في المواقف واحتواء لظروف الآخر، أما من غير المقبول أن تعطي المقاومة غطاء لمواقف لا يحتملها مسارها الفكري والسياسي.

وفي الختام، ما يمكن قوله أن النفوذ الناعم الذي حصلت عليه تركيا لدعمها القضية الفلسطينية والفلسطينيين خلال السنوات الماضية، سيتعرض لمخاطر كبيرة، ولن يسعفها كما لم يسعف غيرها، إن لم يحصل تحول في الرؤية التركية تجاه الصراع في فلسطين. ربما يكون من غير المنطقي مطالبة تركيا في مثل هذه الظروف بمراجعة رؤيتها هذه، لكن من المنطقي والمعقول مطالبتها بالتوقف عن تصريحات ومواقف تعود بالضرر لها أولا. 

اخبار ذات صلة