دخلت أغنياته الى كل بيت فلسطيني، " بدءاً بــ"أناديكم" ومرورا بــ"إرحل" وحتى "نبض الضفة"، وساهمت في الانتفاضة الأولى في اثراء الروح الوطنية داخل النفوس الشابة المنتفضة، وبقيت حتى اليوم ذات قيمة وطنية.
الرسالة بحثت عن المطرب أحمد قعبور، وتواصلت معه في مكالمة هاتفية قلّبت فيها بعض سطور الطفولة والأحلام القديمة والحديثة، وقصص أغنياته التي خلدها الزمن وبقيت حتى اليوم مرجعا ثقافيا عربيا لا يندثر.
عن بداياته المبكرة بدأ قعبور حديثه قائلا: نشأت في عائلة محبة للموسيقى جعلتني أبدأ مبكرا، ما قبل بلوغي سن العاشرة، فوالدي كان أول عازف "كمنجة" في بيروت وما زلت أذكر أبي يرتدي الطربوش ويتأبط الكمنجة ويذهب إلى عمله، فكانت صورته تلك مدخلي إلى عالم الموسيقى، بالإضافة إلى مشاركتي في الاحتفالات المدرسية، التي صقلت شخصيتي وبنائي الموسيقي أكثر.
ويضحك مضيفا: رغم ظهور الجدية على ملامحي في كثير من المشاهد إلا أن روحي تعشق الغناء وخاصة أغاني الأطفال ومسرحياتهم، وهذا العشق بالإضافة الى البيئة الموسيقية التي تربيت عليها ما بين مسرح المدرسة ودعم الوالد لي على الدوام كانت انطلاقتي في عالم الاغنية.
نصائح والده لم تفارقه طوال حياته خاصة وهو صاحب مدرسة خاصة به، فيتذكر قعبور محدثا الرسالة: حينما كنت صغيرا ذهبت مع والدي في جلسة عمل، وكان المطرب فريد الأطرش يغني وبينما أنا في ذلك المشهد حتى غفوت، وحينما استيقظت وجدت نفسي بأحضان أبي في السيارة عائدين إلى المنزل، فنظر لي وسألني: "ألا زلت يا أحمد تريد أن تغني؟! إذا أردت أن تكون فنانا فإياك أن تكون خلف أحدهم، كن دائما في المقدمة".
"كلمات والدي بقيت شعرا لي، طبقت كلامه، وعرفت أنني يجب أن أكون مختلفا ودائما في المقدمة"، يضيف قعبور "أصبحت كذلك حينما امتلكت القيم الإنسانية وحاولت أن أكون شريكا في إعلائها هذا هو المكان المناسب الذي يجب أن يكون فيه الفنان، فكان لأغنياتي طابع ثوري مع الإنسان أينما كان.
" اناديكم" كانت اجابته حينما سألناه عن النقطة التي يعتبرها أحمد قعبور بداية انطلاقته، وهي القصيدة المعروفة للشاعر الفلسطيني "توفيق زياد"، لافتا إلا أنه كان محبا للشعر وقد درس التمثيل والمسرح، ولكنه لم يدرس الموسيقى إلا على يد والده، فقد كانت رغبته من البداية التمثيل، وبعد أن قدم أغنية اناديكم جرفه التيار مسرعا إلى عالم الأغنية فترك فكرة التمثيل والمسرح.
ويعود قعبور بالذاكرة لعام 1975ويخبرنا قصة "أناديكم" التي بدأت في إحدى الليالي بينما كان لبنان في ذروة الحرب الأهلية، وفي أحد الملاجئ كانت الكهرباء منقطعة والأجواء مظلمة وخلال تطوعه وزملائه في منظمة شعبية لمواجهة نتائج الحرب، ألقى الشاب أحمد الذي لم يتجاوز التاسعة عشر على مسامع زملائه قصيدة أناديكم، التي نالت إعجابهم، فانطلقت الفكرة فورا في ذهنه، وسارع لتلحينها وغنائها ولم يكن يعلم أنها ستكون حماسية ملهمة للثوار ضد الاحتلال الفلسطيني والتصدي للظلم عبر السنوات الطويلة.
ويعتقد قعبور أن " اناديكم" تميزت بموسيقاها القوية إلى جانب قوة القصيدة أيضا، ويضيف ضاحكاً أنه يشعر بمزيد من الفخر حينما يعرف أنها غُنيت بلغات أخرى وأنها على درجة كبيرة من الانتشار رغم التطور والتغير الثقافي عبر السنوات إلا انها ما زالت محتفظة بقوتها ومكانتها.
أكمل قعبور سلسلة نجاحاته بأكثر من أغنية مختلفة ولكن الأغاني الوطنية بقيت تلمع كالحجارة الكريمة في المقدمة، بينما يعتقد قعبور أن التعاطي الوطني لدى الشباب هو من يحكم على نجاح الأغنية، معتبرا أغنية "نبض الضفة" و"أرحل" وكلاهما للشاعر حسن ظاهر، قد لاقتا ذات الرواج والانتشار رغم أن الشاعر لم يكتب غير هاتين القصيدتين في حياته.
ولعل المتابع لسيرة قعبور لا يجد أي مراجع تتحدث عن الشاعر حسن ظاهر لأنه تفرغ للعمل الاجتماعي والتربوي وله كتابات مسرحية للأطفال ولكنه لم يكتب شعرا سوى هاتين القصيدتين، حسب قول قعبور للرسالة.
وعن دور الأغنية الوطنية في تحفيز الشباب في ظل هذا الوضع السياسي المتقلب، يلفت قعبور إلى أن الوضع المؤسف في العالم العربي كان وراء تراجع الأغنية العربية الوطنية ويتساءل: كيف يمكن لنا الغناء في ظل ضياع الأوطان؟
أصبحت الاغنية ذات طابع استهلاكي تعرض في مناسبة معينة، ولكن الأوطان ليست مناسبة، بل هي أحلام الناس وكراماتها وليست شعارات وأيدولوجيات، ويبدو أن الشعوب العربية تعبت كثيرا وتعبيراتها الفنية تأخذ أشكالا استهلاكية للأسف.
مضيفا: التحدي الأكبر هو أن نغني بلحظات القوة والضعف أيضا، فالأوطان تحتاجنا في لحظات ضعفها وليس في لحظات قوتها وهنا تظهر الأغنية الناجحة.
كان قعبور يلجأ للقصائد والدواوين والشعراء في بداية عمله، ومع الخبرة أصبح يكتب أغنياته بنفسه، مثل أغنيته الشهيرة "يا رايح صوب بلادي"، حيث يعتقد أن خروج الاغنية واللحن والصوت لشخص واحد شيء يريحه ويعتبره سرا اخر لنجاح العمل.
ويذكر أن قعبور غنى أيضا أغنية "أحن الى خبز أمي"، والتي غناها أيضا المطرب اللبناني مارسيل خليفة دون أن يكون أي منهما على علم بأغنية الآخر، وقد أسعد هذا الشاعر الراحل محمود درويش الذي وصفها بالقرصنة الجميلة على حد قول قعبور.
يعتقد قعبور أن الاغنية والأدب والفنون بشكل عام هي الوجه الجميل للمشاريع السياسية وأي مشروع سياسي بدون أدب ومسرحيات وفنون هو مشروع ناقص لأن الثقافة تمثل القدرة للأيدلوجيا على التعبير.
وما زال لدى احمد قعبور الكثير ليغنيه ويقدمه مستقبلا، معتبرا أن القضية الفلسطينية عادلة، وقد عبر عن حزنه لما آلت إليه الحال مشددا على أن الحرية لن تتم إلا بالوحدة الوطنية، قائلا: لقد بكيت أطفال الغوطة كما بكيت أطفال غزة، وهذه هي إنسانية الفنان التي أتحدث عنها، ذلك الذي لا تغيره السياسة.