مقال: الرسالة وبائعة البقدونس

الكاتب وسام عفيفة مدير مؤسسة الرسالة للإعلام
الكاتب وسام عفيفة مدير مؤسسة الرسالة للإعلام

وسام عفيفة

كانت تفترش الأرض ببسطتها الصغيرة وقد جمعت حزمات البقدونس بالقرب من الجامع الكبير وسط مدينة خانيونس، تنتظر زبونًا كي تقنعه أن يشتري ربطتين بشيكل واحد، بينما يمر فتى يحمل ربطة من الصحف وينادي: "جريدة الرسالة على شيكل"، توقفه بائعة البقدونس وتخرج من صرتها الصغيرة شيكلًا لتشتري نسخة، وقد بدأت تتأمل صفحتها الأولى باهتمام، ما دفع أحدهم إلى سؤالها متهكمًا: "بتعرفي تقرئي يا حجة"؟ أجابته بثقة: "نعم يمه بأقرأ ... ومتعودة أشتري الرسالة وأتابع أخبار المقاومة".

هذا المشهد كان قبل أكثر من عشرة أعوام، حيث فاجأتنا بائعة البقدونس بسلوكها، بل أتعبتنا بعدها لأنها جعلت الأمانة ثقيلة وهي تتنازل عن شيكل جمعته بشق الأنفس كي تدفعه ثمنًا وثقة ودعمًا لنا.

في مقابل مشهد بائعة البقدونس كانت أجهزة أمن السلطة تطاردنا ... تغلق مقار الصحيفة. تسرق أجهزتها، تعتقلنا بتهم عديدة، ملخصها: "ممنوع أن نقول عن زيتهم عكر".

خلال أحد الاستدعاءات الإجبارية لمقر الأمن السياسي التابع للمباحث العامة في الشرطة أواخر التسعينات، وبعد تهديد ووعيد المدير بسبب تقرير صحفي كتبته في سنين عملي الأولى، أدخلني إلى غرفة مجاورة فيها موظفان، وأمام كل منهما نسخة من الرسالة، وقال: انظر ... لقد كلفنا موظفين لمتابعة الصحيفة فقط، وهم يضعون خطوطًا بأقلام الفسفور على كل كلمة وجملة تسيء فيها للسلطة ومشروعنا الوطني.

كنا يومها صحيفة مقاومة ثم صحيفة معارضة، ومرت الأيام وأصبحوا يطلقون علينا صحيفة حكومة بعد العام 2006، رغم ذلك لم يخلُ الأمر من شكوى بعض أصحاب الزيت العكر، واتهمنا أننا نسيء للحكومة والمشروع الإسلامي.

وتبقى شهادتي هنا مجروحة كصحفي أو مدير في الرسالة، لكن يحق لي استعراض بعض من شريط الذكريات، حيث تعرض مقر الصحيفة للقصف بطائرات الاحتلال مرتين في العام 2000 و2008، ومدرجون إسرائيليًا كوسيلة محظورة تحرض على العنف، ومتهمون لدى السلطة برام الله بالإضرار بالوحدة الوطنية، وللبعض الآخر انتقادات على مهنيتنا لإساءتها للمشروع الإسلامي، ملونون باعتبارنا صحافة حزبية خضراء، ومتصفون أحيانًا كصحافة صفراء، نفوز بجوائز ونكرم، أو نتعرض للتهديد ونشتم.

لكن أمام كل هذه المحطات وبعد عشرين عامًا، ملزمون أن نظل أوفياء لبائعة البقدونس.

البث المباشر