كالعادة، جرت قراءة وثيقة حركة حماس، على طريقة "العميان والفيل"، كما وردت عند الفيلسوف الفرنسي فولتير، كلٌّ لا يريد أن يرى فيها إلا ما يدعم مواقفه واتجاهاته المسبقة، من دون أن يتوقف عند نص الوثيقة كاملاً.
لكن أكثر القراءات وضاعة تلك التي حصر أصحابها هدفهم منها في استثمارها وجبةً دسمةً على مائدة الاستقطاب وتصفية الحسابات السياسية، وإدارة الصراعات الداخلية في الأحزاب والجماعات السياسية المتطاحنة على "اللاشيء".
المتلمظون، المتربصون لأية فرصة سانحة لغرس المخالب ونشب الأظافر في مشروع المقاومة، وجدوا فيها تخلياً عن البندقية والكفاح، من أجل تحرير الأرض والإنسان الفلسطينيين، وتجديفاً مع تيار"الفتحنة"، وبحثاً عن مساحات صغيرة تحت سقف "أوسلو"، وما تلاها من ملاذاتٍ آمنة في كهوف التصور الإسرائيلي الأميركي للقضية.
ويدهشك هنا أن بعضاً من القومجيين المتحولين الذين كانوا يطلقون الزغاريد مع كل صاروخ صهيوني يسقط على غزة في عدوان 2014، بل ويطالبون القاهرة بسحق "حماس"، كما تفعل إسرائيل، يرون في الوثيقة تنازلاً من "حماس"، وتفريطاً في القضية.
أعني بذلك ما أسميتها، في ذلك الوقت، "العبوات الليكودية الصغيرة المعبأة في مصانع الثورة المضادة بمصر"، التي يعبر عنها فصيلٌ من القوميين والناصريين الذين عاموا على سطح انقلاب السيسي، ووصل بهم السقوط إلى أن يدينوا، بأقبح العبارات، عمليات المقاومة الباسلة في غزة، بل وقطع بعضهم شوطا أبعد من ذلك، وهو يعلن، بكل بجاحة، أن غزة مع الاحتلال الصهيوني أفضل.
أما الباحثون عن مادةٍ جاهزة لتصنيع النبال لاصطياد الإسلام السياسي، وبالتحديد الإخوان المسلمين، فلم يجدوا فيها سوى أنها وثيقة انفصالٍ وقطيعةٍ روحية ومعرفية مع "الإخوان"، فيما كانت رؤية "أخوان اللعبة الاستقطابية" أسوأ بكثير، إذ جاءت الترجمة متسرعةً وطائشةً، لتستخدم الوثيقة في النيْل من خصومهم داخل الجماعة، وتعتبرها وثيقة إدانة للحرس القديم.
في العام 2014، أجريت حواراً مع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خالد مشعل، قال فيه بوضوح قاطع "أعرف أن ساحتنا العربية تشهد خلافاتٍ وصراعاتٍ داخليةً، واستقطاب قوى وطنية وإقليمية، ولكن نحن حريصون على أن ننأى بأنفسنا عن هذه التجاذبات، ولا نتدخل فيما يجري في أي قطر عربي، أو غير عربي؛ هذه سياستنا".
كان من ضمن ما قاله، أيضاً، ولا يزال يلحّ على الذاكرة "نحن حريصون كما يقول المثل على أن نأكل العنب ولا نقاتل الناطور"، ولعل ذلك هو المقصود من عبارةٍ ذكرها مشعل في مؤتمر إطلاق الوثيقة عن "البراغماتية المنضبطة"، والمعنى أن قضية حماس الأولى والجوهرية هي مشروع مقاومة الاحتلال وتحرير الأرض، وهذا يدفعها لكي تمارس السياسة بمفهوم الاستفادة من كل المعطيات المتناقضة، خدمة للمشروع. وبالتالي، اختارت الحركة أن تنأى بنفسها عن الخلافات العربية/ العربية، والصراعات الأيديولوجية بين القوى والتيارات السياسية.
ما يهمني في الوثيقة وأراه جوهرها الثابت البنود 18-19-20 والتي نصت على :
- يعد منعدماً كلٌّ من تصريح بلفور، وصكّ الانتداب البريطاني على فلسطين، وقرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، وكلّ ما ترتّب عليها أو ماثلها من قرارات وإجراءات؛ وإنَّ قيام "إسرائيل" باطلٌ من أساسه، وهو مناقضٌ لحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، ولإرادته وإرادة الأمة، ولحقوق الإنسان التي تكفلها المواثيق الدولية، وفي مقدّمتها حقّ تقرير المصير.
- لا اعترافَ بشرعية الكيان الصهيوني؛ وإنَّ كلّ ما طرأ على أرض فلسطين من احتلال أو استيطان أو تهويد أو تغيير للمعالم أو تزوير للحقائق باطلٌ؛ فالحقوق لا تسقط بالتقادم.
- لا تنازلَ عن أيّ جزء من أرض فلسطين، مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال. وترفض حماس أي بديلٍ عن تحرير فلسطين تحريراً كاملاً، من نهرها إلى بحرها. ومع ذلك، وبما لا يعني إطلاقاً الاعتراف بالكيان الصهيوني، ولا التنازل عن أيٍّ من الحقوق الفلسطينية، فإن حماس تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران/ يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة.
تلك هي استراتيجية حماس، التي أتمنى استمراريتها، أما التكتيكات فليس من المنطق أو العدل أن نصادر حق الحركة في تحديثها وتطويرها.