ما زالت قصصها مخلدة حتى اليوم، لا تريد النسيان، ولا تحاول، وربما فقدت ذاكرتها الكثير من تفاصيل الحياة اليومية التي تعيشها، لكن جرحا في الذاكرة، ترك ندبة ما زالت تعود إليها كلما قرصها الحنين، فتستذكر قرية "البطاني الغربي" التي هاجرت عنها وهي ابنة الثمانية عشر.
الحاجة حليمة محمود تقيم مع ابنها الآن في جمهورية مصر العربية، وأجمل ما يمكن ان تقدمه لك حين تزورها، هو وجبة دسمة من ذكريات النكبة الفلسطينية التي تسردها بالدموع، عن الوجوه التي رحلت وتلك التي ما زالت تشاركها ذكرى قلبت تاريخها رأسا على عقب.
فقبل تسع وستين عاما، جاء المنادي على قرية البطاني الغربي رافعا صوته: " أن اهربوا بأعراضكم، فاليهود دخلوا إلى قرية دير ياسين وقتلوا واغتصبوا بناتهم، وليس لكم الا الرحيل"
وهنا نادت والدة الحاجة حليمة التي كانت تبلغ الثمانية عشر عاما في ذلك الوقت، وطلبت منها أن تجمع بعض الأغراض، مهدئة من مخاوفها بقولها : لن نغادر طويلا، سنعود بعد أيام.
تصف الحاجة حليمة بذاكرة لا تموت ذلك اليوم قائلة: هاجرنا جماعة واحدة، من عدة عائلات، كنت أعيش في بيتنا في كنف زوج أمي الحاج مصطفى فرحات، وقد كان رجلا ذا هيبة ووقار، وكان من أغنى أهل القرية، وكانت أمي امرأة قوية، وحينما هاجرنا أذكر أننا سرنا لأيام حتى وصلنا قطاع غزة.
تتابع: وأنا أسير خلف الركب أسند على كتفي الأيمن جارتنا المريضة، وهي نفساء لم يمض يومين على وضعها لابنها الذي أحمله في يدي اليسرى، بينما أضع فوق رأسي صرة كبيرة ثقيلة تحوي كل ما جمعته أمي من أغراض.
وتكمل محدقة في المجهول واصفة بدقة تلك الليلة: حل الظلام حالكا فوق رؤوس المهاجرين، وفاتني الركب، وأمي وزوجها وأخوتي في بدايته، بينما أسير أنا ببطء، بسبب حملي، حتى فوجئت بسقوط المرأة التي تسند رأسها على كتفي ميتة من شدة التعب، وهنا بدأت أنادي على الركب بأن يرجع، وكان شقيقي "علي" الذي يكبرني بعامين، وشقيقي الأصغر "رشيد" اكتشفا غيابي فعادا للبحث عني، وبينما أنا أنادي في حلكة الظلام ولا أرى أمامي، سمعت صوت "علي" ينادي من بعيد، وأرد أنا النداء.
وبدمعة حارة بدأت الحاجة حليمة تنادي بصوت مخنوق على أخويها، وكأنها عادت الى تلك اللحظة، تتحدث:" لا أدري لماذا أقلب هذه الحادثة، في ذهني كلما تذكرت الهجرة، وتذكرت أن الدنيا فرقتني وشقيقي "علي ورشيد"، هاجرت انا نازحة مع زوجي بعد حرب 67 إلى مصر، بينما هاجر "رشيد" الى ليبيا، وبقي "علي" في غزة ومنذ ذلك الحين لم نلتق، بينما لم تفارقني صورة تلك المرأة الواقعة في الظلام، وكيف عاد الركب لدفنها حيث سقطت، بطريقة آلية، دون ابداء أي تعليق، ودون دموع أو صرخات، لنكمل بعدها المسير.
وعن أهم ما تذكره أيضا من ذكريات النكبة تقول ضاحكة: أذكر زواجي الذي تم بعد النكبة، فمن شدة الفقر الذي كنا نعيشه، لم تصرف وكالة الغوث سوى خيمة واحدة لكل العائلة، وهي ذات الخيمة التي تزوجت فيها وأقمت فيها انا وزوجي وأمه وأبوه وأخوته أيضا!
اذكر أن مراسيم العرس كانت أقل كثيرا من أي فقر يمكن أن يخطر على البال، فقد جمعت امي كومتين من التبن، وغطتهما بقطعة قماش، وكانت لي مقعدا، بينما كنت أجلس بجانب زوجي خجلة حافية القدمين لأني لم أكن أمتلك حذاء، حتى أحضرت امي حذاء رياضيا استطاعت أن تأخذه من أحد المكاتب الاغاثية في اللحظة الأخيرة ودست قدمي فيه، ففرحت جدا بأني لن أزف حافية على الأقل.
وفي ملف ذكرياتها كان هناك الكثير، حيث تصف لنا في أحد المواقف قائلة: من المواقف التي لن أنساها، كثرة الخير الذي كان لدى عمي- زوج امي- فقد كان رجلا خيرا حنونا، مدافعا عن حقوق أمي على الدوام، ومن المفارقات المضحكة أن بعضا من أقاربها أخذوا حقها في ميراث من أرض لهم في "قرية البطاني"، فرفع زوج أمي قضية لاسترجاع حقها، ودفع اتعاب محام مختص في غزة، للحصول على حكم من المحكمة باستعادة الأرض التي هاجرنا جميعا وتركناها، وفعلا حصل على الحكم باسترجاع ميراث أمي ، ولكن الأرض في الواقع لم تعد لأحد.
حينما تنظر إلى وجه الحاجة حليمة يراودك شعور بأن هناك شيفرة يمكن ان تفك فيها المعالم المحفورة على وجهها والتي لا يعلمها الكثيرون منا، والتي تخرجها تدريجيا كلما ومضت في الذاكرة قصة، تعود الى سردها، مرة بدموع عينيها، ومرة بضحكاتها، ومرة ساخرة من تقلبات الواقع، ومن الأقدار التي أوصلتها في النهاية لهذه البقعة.
تقول: أصعب اللحظات التي لا تنسى لحظات القهر، والإهانة، والذل التي تعرضنا لها بعد الهجرة، لأن من لا وطن له لا كرامة له بالفعل، فلقد بعنا كل أملاكنا، والمواشي الكثيرة التي كانت معنا، لنعيش ونأكل ونشرب، فالأيام طالت، والليالي القارصة بدأت تحصد الأرواح، والذل يزداد يوما بعد يوم.
تتابع: كنا نخيط ملابسنا من بقايا أكياس الخيش، ولا أنسى وجه عمي المليء بعزة النفس والأنفة وهو يرفض رجاء أمي له بأن يخيط "دمايته" _ لباس أهل الشام وكان يخاط من الحرير ويسمونه أيضا " قمباز"_ من احدى البطانيات بعد أن بدأ الناس يخيطونها من شدة البرد من بطانيات الصوف التي كانت تصرفها وكالة الغوث. وبدا كأن برد الشتاء أهون كثيرا من ذل سترسمه على جسده سترة مخاطة من بطانية صوفية صرفتها له مكاتب التموين !
تقيم الحاجة حليمة محمود الآن في مصر، دارت بها الدنيا وتغيرت أحوالها، وكبر أحفادها وأحفاد أحفادها، ولكنها وحدها تعود الى البطاني في كل عام في ذات التوقيت، وبين عودة وعودة تخرج تنهيدة، وتقول لن أنسى البطاني مهما مرت السنين، وإذا عدت الآن سأدلكم على الطريق.