وجود بصمات الاحتلال في جريمة اغتيال الشهيد مازن فقهاء استنفر أجهزة الأمن بغزة لقلب كل حجر خلف عملاء الاحتلال؛ حتى كشفت خيوط اللعبة بمهنية عالية.
وكان الاحتلال استخدم في الرابع والعشرين من مارس الماضي مجموعة من عملائه بغزة لتنفيذ جريمة اغتيال فقهاء، الذي يتهمه بقيادة أنشطة للمقاومة في الضفة، بعد نيل حريته في صفقة وفاء الأحرار عام (2011).
وكشفت وزارة الداخلية بغزة، في مؤتمر صحفي تفاصيل عملية الاغتيال التي نفذتها مجموعة من ثلاثة عملاء مكلّفة من ضباط مخابرات الاحتلال، مؤكدةً نجاحها في الوصول إلى (45) آخرين من عملائه بغزة.
ثقب في الخاصرة
القسام الذي ظهر في البداية كمن ابتلع النصل صامتاً، عاد مع أجهزة أمن الداخلية بغزة حاملاً الكثير من التفاصيل المهمة التي جاءت على مكث بعد تتبع قتلة فقهاء.
المهمة الدائمة في وحدة تجنيد العملاء بغزة أصبحت الآن أكثر مشقة، والاستجابة لها أقل بعد أن شاهد الناس اعترافات عملاء جريمة فقهاء، وبدأ عملاء آخرون يحدثون أنفسهم بضرورة تغيير مسارهم الخاطئ.
ويؤكد واصف عريقات الخبير العسكري أن نجاح الأمن بغزة في كشف العملاء يعكس مهنيّة وقدرة تسجلً له، والذي كشف الجريمة في وقت قياسي، خاصةً أن ((إسرائيل)) اعتادت عدم ترك بصمات أو آثار.
ويضيف عريقات للرسالة: "نجاح الأمن وجّه رسالة للجبهة الداخلية الفلسطينية أنه ليس سهلاً بقاء العميل متخفيا، ورسالة للعملاء أن يتراجعوا، إضافة لاستخلاص دروس وعبر من كشف عدد كبير منهم، قد يكونوا سقطوا في أجواء الانقسام والحصار، وهي نوافذ استقطبهم الاحتلال من خلالها".
رئيس الموساد قبل عامين، صرّح بأن تحسين قدرات الموساد التنفيذية تعدّ أولوية في المرحلة المقبلة، وبالفعل مارس الموساد الاغتيال لكن اليوم باتت الضحية قادرة على الكلام والفعل بحق الجاني دون أن تسلّم نفسها للقدر.
ويرى د. محمود العجرمي الخبير الأمني أن الاحتلال غيّر أساليب عمله التقليدية، ورغم ذلك نجح الأمن بغزة مع القسام في كشف ما وقع سريعاً، ويشكل صفعة حقيقية للاستخبارات".
ويتابع: "قديماً استخدم الاغتيال في غزة بالطائرات، وبالضفة هجمات مباشرة لكن ما جرى مع فقهاء غير مسبوق، ومع ذلك كشفته غزة في فترة وجيزةـ. وكيل الداخلية اللواء أبو نعيم أشار لخيوط تحفّظ عن إعلانها، وهو ما يعكس أن نجاح مقاتل القسام في الميدان توّج بتفوق في الأمن".
ضعف استخباري
بإمكان "يوسف شابيرا" الآن إشهار أصبع الإبهام لمن عاونوه في إعداد تقرير عملية "الجرف الصامد" التي كشفت ضعف أجهزة الاستخبارات والأمن في تفاصيل أجزاء من تقريره التي أثارت زوبعة متواصلة.
ويقول الخبير عريقات إن كشف المستور من عمل الاحتلال في جريمة فقهاء وجّه ضربة للعمل الاستخباري، وسجّل إنجازا حقيقيا للأمن بغزة، بعد زمن من تباهي الاحتلال بتفوقه في مثل هذه العمليات، التي لم يكشف عنها إلا بعد مرور سنوات طويلة.
لجوء الاحتلال إلى عملاء محليين في تتبع مؤسسات وشخصيات أمنية وعسكرية فلسطينية وفق اعترافات العملاء في جريمة فقهاء، يؤكد ضعفه في الوصول لأهدافه رغم استعانته بـ(18) طائرة متطورة للاستطلاع والمتابعة.
ويقول الخبير العجرمي إن الاحتلال عمل بشكل عنقودي، مستخدماً كل الإمكانات، وحاول العمل بنظام حلقات غير مترابطة، ورغم ذلك ظهر احتراف الأمن الفلسطيني، وحصانة الجبهة الداخلية في كشف الجريمة.
عمليات ابتزاز المرضى ومحاولة تجنيدهم وبالمثل الطلاب والتجار على حاجز "بيت حانون"، لم يكن إلا محاولة لكسب المزيد من المصادر البشرية للمعلومات بغزة، والتي باتت أكثر وعياً وأقل استجابةً معه.
في المقابل فإن اعترافات العمل بمواصلة مهمة رصد الشهيد فقهاء حتى اغتياله استمرت (8) أشهر، وبقاء بعضهم على رأس عمله من عام (2004) يعكس ضرورة البحث والعمل الجاد لعلاج مشكلة تجنيد العملاء ونجاحهم في مواصلة مهماتهم.
العمل الهادئ
قادة الموساد والشاباك والأمن بشعبه المختلفة يعيدون اليوم حساب المعادلة بعد أن بدأ رجالهم يسقطون كأحجار "الدومينو" في يد الأمن بغزة، وبعض عملائهم ثقلت أقدامهم بمقدار طن؛ خوفاً من الحركة باتجاه الهدف.
ويعاني جيش الاحتلال من ترد معنويات جنوده؛ ما انعكس على الجبهة الداخلية وفق مراقبين للمشهد الإسرائيلي، بدأت بعد فشله في حرب تموز (2006) بلبنان وحروب غزة (2008-2014).
ويرى الخبير عريقات أن الجيش الذي كان لا يقهر تم قهره، والأمن الذي لم يقهر تم قهره بواقع عملي، وأن ما يلفت الانتباه في نجاح العمل الأمني هو حالة الهدوء والحكمة في مواصلة المهمة.
ويتابع: "لاحظت شخصياً كخبير، حالة من الثقة بالنفس خلال العمل الأمني من اليوم الأول، وكانت المهمة متواصلة ولم تؤثر أو تزعج الشارع الفلسطيني بغزة، ولم يدن أحد أو يظلم من غير المتورّطين أو المشبوهين".
وحاول الاحتلال تسخير وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام لتصدير رواية مفبركة حول اغتيال فقهاء بيد فلسطينية أو خلافات فلسطينية حتى كُشف المستور.
المواجهة القادمة
بالنسبة للجيش والأمن الإسرائيلي فإن العمل بغزة الآن أشبه بالسير وسط أشراك الموت التي تفوح منها رائحة البارود والفشل في كل ثانية، اعتماداً على الوقائع العملية لا النظرية.
الجيش قاتل في الحرب الأخيرة بشكل أعمى، بعد أن عانى من ضعف في المعلومات فلم يحقق أهدافاً استراتيجية في معظم المهمات، وفق خبراء وتقارير أمنية إسرائيلية وفلسطينية.
ويرى الخبير عريقات أن الأمن والقسام بغزة تعامل بمهنية في حرب العقول و(السايبر) مع الاحتلال الموجود على الأرض، الذي يستعين عادةً بالعملاء والمستعربين، ويملك جميع الإمكانات.
ويقول: "لن تتوقف (إسرائيل) عن مهمات الاغتيالات والعملاء، فهي تعتمد الخدعة كاستراتيجية عسكرية في الاغتيالات، وقد واصلت ذلك طوال الزمن، لكنها اليوم سترفع سقف الاحتراز والفشل، وستكون أكثر حذراً، وستحاول إخفاء كافة بصمات عملها".
الإشارات الأمنية توضّح أن الأمن بغزة أحبط كثيرا من مهمات الاحتلال الأمنية، وكشف كثيرا من عملائه وأن من نجح في إخفاء "شاليط" خمس سنوات وضبط مجموعة اغتيال فقهاء أحبط، وفق قول الخبير العجرمي، الجبهة الداخلية الإسرائيلية التي تتابع إخفاقات قادتها.
ويرى العجرمي أن القسام والأمن بغزة فقأ عيون الاحتلال على الأرض الذي قاتل بشكل أعمي في "العصف المأكول" وزاد من رصيد الجيش والاستخبارات السلبي الذي تعرّض له تقرير "شابيرا" مراقب الدولة عن إخفاقات "الجرف الصامد".
اما محمد مصلح المهتم بالشئون الإسرائيلية فيرى أن الضعف الاستخباري سيظهر جلياً في أي حرب أو مواجهة مقبلة لأن حجب المعلومات يؤثّر على حركة وأهداف الجيش والشخصيات الفلسطينية المستهدفة.
ويضيف: "الصمت الإسرائيلي حتى الآن يعكس حالة الصدمة التي ستحاول العلاج بدون ضجّة لإخفاقها وسيمكن نجاح المقاومة من تسديد ضربات ناجحة في أي جولة قادمة وربما سيكون تغييرات وإقالات قريباً لمسئولين أمنيين إسرائيليين بشكل معلن وغير معلن".
الجبهة الداخلية
سكان غلاف غزة لن يجدوا في الجولة القادمة كتفاً دافئة يعتمدون عليها وهم ينزلون إلى الملاجئ فالمعلومات لدى الجيش والأمن خاصتهم شحيحة بشكل يؤهل المقاومة لتسديد ضربات مزعجة.
ويقول الخبير العجرمي إن جبهة الاحتلال الداخلية باتت تتساءل عن جدوى مؤسستها الأمنية والعسكرية التي تخفق أحياناً في حمايتها وأن من تمكن من التسلل لمستوطنة (زيكيم) في الحرب وضبط عملاء جريمة فقهاء قد يطلّ من مشارف غزة قريباً.
اليوم سيعدّ الاحتلال للألف قبل اتخاذ قرار المواجهة القادمة مع غزة مدركاً أن تفوقه من حيث القوة التدميرية وتسخير وسائل الإعلام لصالحه لن يشفع له أمام عجزه الحقيقي في تنفيذ مهمات الأمن بغزة.
ويرى محمد مصلح المهتم بالشئون الإسرائيلية أن مواصلة عملاء جريمة فقهاء العمل من عام (2004) حتى اليوم يستدعي ضرورة البحث عن علاج يخفّض نجاح الاحتلال في التجنيد، بل والعمل بوقاية مسبقاً.
ورغم أن التاريخ يثبت بالوقائع أن حركات التحرر مارست دوماً معركة ملاحقة الجواسيس في ظل إصرار خصومها على تجنيد المزيد منهم إلا أن الأهمية الأمنية والمهنية في كشف عملاء الاحتلال مؤخراً أطلقت مرحلة جديدة من العمل الأمني بين المقاومة والاحتلال.