لم تنسَ ذاك اليوم، حين طلب منها والد الأسير عزمي نفاع أن ترسم له وجه ابنه، الذي شوهته رصاصات الغدر الصهيونية قبل أن تغيبه خلف القضبان.
حيث أراد الأب المكلوم أن يستخدم صورة ابنه لملفات طبية وفي منظمات حقوقية، فاضطر أن يصف لها معالم وجه ابنه بعد إصابته، حين رفضت إدارة السجن إعطاءه صورة له تؤكد حدوث الإصابة.
فكلما كانت تزيد التشوهات يأتيها أبوه بصوت مرتجف: "شوهوه أكتر من هيك"، فترسمه أكثر تشوهًا، كما معالم قلبها التي بعثرتها رجفة صوته!
إلهام مختلف!
الرسامة إلهام المغيث مغربية الجنسية، نشأت منذ صغرها على حب فلسطين، ليتوافق القدر مع هواها وتتزوج فلسطينيًا، ما يجعلها تعشق تفاصيل موطنه الذي يعيش.
لم تكن إلهام زوجة الأسير "محمد نزال" تعلم أنها ستدفع ضريبة زواجها من فلسطيني سريعًا، حين حجبته غياهب السجن عن ناظريها بعد زواجهما بأيام قلائل، قبل أن يكتمل أي فصل من فصول حكايتهما.
فمنذ صغرها وهي "لها من اسمها نصيب" كما يقال، فقد كانت ترى المغيث أن الرسم أدق وصفًا من الكلام، فعكفت عليه للتعبير عن شعورها وغضبها وأحزانها وآمالها، فطبيعة فرنسا التي كانت تقطن فيها وما تزال كانت هي الملهم لها، كما تقول "للرسالة".
فقد رسمت بتقنيات عديدة كان آخرها الرسم الإلكتروني على شاشة الهاتف الذي أتقنته باحتراف، حيث لجأت إليه حين وجدت نفسها أمام ظروف منعتها من الجلوس على طاولة والرسم بالأقلام وعلى الورق.
لم تتوقع إلهام يومًا أن تصبح أوجاع أهالي الأسرى هي الملهم لها في موهبتها هذه، ليرتبط اسمها ورسمها ارتباطًا وثيقًا بآهاتهم وأحلامهم.
رسامة الأسرى
وعبر أسلاك الهاتف وبصوت حزين تروي المغيث "للرسالة" عن رحلة رسمها لقضايا الأسرى ابتداء برسوماتها عن رحلة عذاباتها بعد أسر زوجها عبر لوحات مؤثرة، حتى غدت تلقب الآن ب "رسامة الأسرى".
حيث رسمت في البداية زوجها خلف القضبان، كما رسمت حالاتها النفسية، من أوجاع وشوق وأحلام، وأكثر ما ركزت عليه رسم انتظارها لابنها الذي لم يرَ أباه.
وأخبرت المغيث "الرسالة" أن سبب تركيزها على رسم الأسرى هو معايشتها آلامهم وعلمها بكواليس أحداث حياتهم.
حيث صدمت بكمية القهر والخذلان المحيط بالأسرى الفلسطينيين، لذا تحاول برسوماتها أن تلفت انتباه الناس إلى قضاياهم لعلها توصل معاناتهم للعالم أجمع.
وترسم إلهام الأسير وتوثق جزءًا من حياته قبل اعتقاله، لعل المتلقي يفهم أن الأسير ليس مجرد اسم أو رقم في عدد الصباح، وجل طموحها أن ترسمهم مرة ثانية وقد تنسموا عبق الحرية.
وكأن سعادتها تسربت عبر أسلاك الهاتف، وهي تخبر "الرسالة" أن رسوماتها تخفف عن الأهالي كثيرًا من آهاتهم، فيكون وقع السعادة عليهم وعلى الأسير ذاته، كما يصلها.
فأهل الأسير أحيانًا يطبعون صورته التي ترسمها بحجم كبير ويعلقونها في البيت أو يوصلونها إلى الأسير عبر الزيارات، مما يشكل هدية جميلة وشخصية تدخل الفرحة إلى قلبه.
عادت بذاكرتها وقالت: "لا أنسى أم الأسير التي لم تكف عن البكاء في خيمة الاعتصام، إلا بعد أن أهديتها صورة لابنها، فاحتضنتها وتبدلت دموعها إلى ضحكات.
كما تحكي "للرسالة" بصوت منشرح عن الأسير أحمد المغربي الذي رأى بناته من خلال رسمة لها عرضت على إحدى الفضائيات أثناء لقاء معها.
صورة واحدة
أدركت المغيث أن البراءة تتلاشى شيئًا فشيئًا في قلوب أطفال الأسرى، حين يدخلون منذ نعومة أظفارهم في دوامة التصاريح والزيارات، وتكون أول معرفتهم بالحياة هو المحامي والصليب الأحمر وحساب الدقائق من خلف الزجاج، و أول ما ينطقونه هو "وين بابا".
فحرصت أن تجمع أطفال الأسرى بأبيهم في صورة واحدة، ما من شأنه التخفيف من وطأة الحرمان الذي يعيشونه، وتعويضهم عن أوجاعهم.
حاولت المغيث تقريب البعيد بل المستحيل أحيانًا، فجمعت الأسرى بخطيباتهم في إطار صورة واحدة يسهل احتفاظهم بها، وكذلك رسمت الممنوعات من الزيارة من زوجات الأسرى في صور بجوار أزواجهن، فكان ذلك يضفي عليهن سرورًا لا يستطعن وصفه لها، كما تقول.
"جعفر"
تضحك المغيث وهي تخبر "الرسالة" أن أقرب رسوماتها إلى قلبها هو كاريكاتير "جعفر"، ذاك الاسم الذي اتخذته زوجات الأسرى لقبًا لهن، بعد أن أخذن أدوار الرجال في غياب أزواجهن، وقد أطلقنه على أنفسهن من باب المزاح، لكنه في الحقيقة واقع يعشنه.
وتضيف: "جعفر يعني أن يوم زوجات الأسرى لا يبدأ بفنجان قهوة ولا ينتهي بجلسة سمر، فعلى زوجة الأسير بالإضافة إلى أعمال المنزل أعمال كثيرة، فهي مديرة الشؤون الإدارية والمالية في البيت، وعليها مسؤوليات التربية، كما عليها متابعة أمور زوجها في الأسر من تصاريح الزيارات وحتى التواصل مع المحامي، وغيرها من الأعمال التي لا تحصى بكلمات".
ثم تتنهد حين تحكي عن كاريكاتير زوجات الأسرى، فقد أرادت من خلاله أن تنسيهن شوقهن وقصصهن اليومية التي يعاركن بها الحياة، من إجراءات الزيارة وفرحهن المسروق دومًا، وانتظار الأخبار، والسهر أمام المواقع المعنية بأخبار الأسرى.
اختارت المغيث أن ترسمهن كعرائس بفساتين لتنسج كل واحدة منهن بخيالها يوم التحرير، لكن سرعان ما يمتزج الألم الذي لم يستطعن تجاوزه في مشوارهن في ذات الرسمة التي رسمت فساتينهن كزي السجون، وهن في انتظار أن تزهر باقة الورد الذابلة التي يحملنها بأيدهن.