قائد الطوفان قائد الطوفان

شرق مدينة غزة

"مسحراتي حزين" في "الشعف".. تعرف على السبب

غزة-أمل حبيب

سيدفعك صوته وهو ينادي على أهالي شارع الشعف بأسمائهم لتطل من نافذة منزلك، سيبهجك وهو يلاطف صغار الحارة ولاسيما من طل عليه من الشرفات، وقد يدعو لأحد الجيران الذين فقدوا ابنهم الشهيد بأن يربط الله على قلوبهم بالصبر.

ما يلفتك لو سمعت المسحراتي حازم الكتناني ابن الرابعة والثلاثين عامًا أنه عادة ما يستخدم السجع والجناس في ايقاظه للنائم، فأمام بيت يعود لعائلة رجب، نادى: "يا غاليين يا آل رجب والله ورجونا العجب".

كان العجب من وجهة نظره أنه يمشي يوميا في ذات الشارع وسط عتمة تجتاح الطرقات بشكل مبالغ فيه.

الكتناني ختم مناداته بطابع حزين لا بلاغة فيه ولا كناية، نادى ببحة وكأنه يناجي ربه.. كأنه يتضرع.. كأنه يشكو حالا قد طال بنا دون سؤال.. قال دون بهجة ولا حيوية اعتاد عليها أهالي المنطقة:" والله حرمونا الكهربا.. حرمونا الكهربا يا ربي".. ظنت "الرسالة" أنه بكى بعدها أو لربما هي احدى الجارات التي كانت تتخبط في عتمتها وتردد "حسبنا الله ونعم الوكيل"!!

"بحب أدعي بالعتمة بحس ربنا قريب مني بحس دعوتي بتوصل" كانت هذه المرة الأولى التي نلمح خلالها ملامح المسحراتي حازم والتي لم نكن نعلم ونحن نطل عليه من شرفة أحد المنازل ان كان لون بشرته بيضاء أو قمحية أو تميل للسواد، لا يمكننا أن نتخيل سوى خيال صنعته العتمة يتحرك دون أن نتمكن من تحديد طوله ان كان تجاوز المتر والنصف بكثير!

"الله يجزي الي كان السبب.. حرمونا الكهربا بدون سبب" مشى قليلًا تتبعه بناته الخمسة، الكبيرة كانت تمسك فانوسًا صغيرًا تحاول أن تنير لوالدها طريق شارع الشعف والذي لابد أن تتعثر خطواتك خلال السير فيه لكثرة الحفر والمطبات العشوائية.

لم تكن أجواء السحور على العتمة وتلك الأضواء الخافتة التي تنبعث من شرفات المنازل وحدها التي تجعل حازم حزينًا حيث قال: "حاسس بولاد بلدي من قطع كهربا ورواتب وظلم (...) حاسس فيهم لأني مواطن حيطان بيتي هي الي ستراني".

حازم الذي تحلم صغيراته الخمسة بثلاجة ليضعوا بداخلها عصيرهم الرمضاني، يأمل هو أن يمر الشهر بسلام دون مطالبات من صاحب البيت بدفع الايجار المتراكم عليه والا سيقوم بطرده !

يعود للطرق على طبلته الصغيرة والتي ابتسم عند سؤالنا له عنها، وكأنه نسي تلك الهموم التي استأنست ببعضها سويا في قلبه " أول طبلة أهداني إياها جاري قبل 8 سنوات.. ربي يفك أسره".

في كل مرة يطرق بأصابعه عليها يدعو لجاره بأن يفك الله أسره من سجون الاحتلال، وعند سؤالنا عن أول يوم له كمسحراتي بين أن جسده كان يرتجف لاسيما مع كل صاروخ من طائرات الاحتلال خلال اجتياحه لشمال قطاع غزة.

اصحى يا نايم

"اصحى يا نايم وحد الرزاق.. عليك بنادي يا عم فادي.. اصحى من نومك متصحي جارك ده النبي مختارك.. يا عم محمود وحد المعبود"، ايقاع طبلته تناغم مع ما يردده من كلمات أكد بأنها "بتطلع من قلبي على لساني على طول".

لا يمكن لحازم أن يكف عن القرع، أكد على ذلك أكثر من مرة وهو يحاول أن يرسم ابتسامة موزونة على وجهه القمحي، ويقول:" سعيد بعملي وسعيد أكثر لدعوات الأهالي لي (...) أتمنى أن يرزقني بابن لينادوني أبو محمد".

بحة في الصوت وكأن اللغة اعتذرت منه، ولم يعد في جعبتها كلمات تعبر عن وجعه لحظة مروره من أمام منزل عائلة البطش في ذات المنطقة والتي ارتكب المحتل بحقها مجزرة راح ضحيتها 18 شهيد وعشرات الإصابات.

يفتقد حازم الطفلين إبراهيم ومحمد والذي اعتاد أن يشدا طرف كوفيته ليدخلاه صوب باحة منزلهما ليبتهجا به وهو يقرع الطبول ليوقظ أهل البيت.

يعود حازم الى أول رمضان بعد العدوان الأخير على غزة، أول رمضان غابت فيه ضحكات الطفلين واستبدل المشهد بدمعات والدتهما وهما على الشرفات يطلان على "عمو حازم المسحراتي".

يحاول ألا يكون حزينًا أمام أمهات الشهداء، في كل مرة يمر من هناك يحاول استحضار فرحة إبراهيم ومحمد وكأنهما يلوحان له ويستمتعان بما يقول، يحاول أن يستحضر استفزاز محمد لإبراهيم لأن عمو حازم ردد اسمه أكثر منه مرتين، يحاول في كل مرة ويعود ليعلن فشله ويشاركهم الدمعات والدعوات دون ضحكات أو مشاغبات الصغيرين!

ابتعد وما عدنا سمعنا صوته وكأن العتمة قد ابتلعته، "عرفتوا ليش حزين!" رددها بصوتٍ عالٍ وصلنا مصحوبًا بالصدى، الا أن هنالك صوت خافت في أقصى قلب حازم لا يخفى على الله. المسحراتي حازم وَحّد الدايم قبل أن يبتسم "للرسالة" ومشى مهرولًا صوب بيته عله يرتوي بشربة ماء باردة تكون قد طلبتها احدى بناته من الجيران قبل أن ينادي المؤذن "الله أكبر"!

البث المباشر