قائد الطوفان قائد الطوفان

لم يتجاوز عمره 16 عاماً

بريق ميناء غزة المحاصر يتلألأ في الموانئ العالمية

غزة- فادي الحسني – الرسالة نت

عندما تدخل ميناء غزة فإن شعورا غريبا يتملكك، يجتمع فيه التناقض نسيم البحر العليل يفوح من أركانه المتناثرة، ورائحة وقود عادم..كل شيء في الميناء باليا، لكنه في الوقت نفسه مرفأ جميلا بالنسبة لزائريه، أما بالنسبة للصيادين فهو يمثل الحضن الدافئ.

من يطأ الميناء يدخل عبرة بوابة حديدية يشرف عليها الأمن البحري، أصحاب البزات السوداء، يحصل على إذن الدخول، كما حصلت "الرسالة"، ثم يسلك طريقا ترابيا منحنيا يقسم البحر نصفين، على جنباته مكعبات أسمنتية ومراكب مهترأة حطم البحر أخشابها وأهلكها، وأخرى دمرها الاحتلال وطعنها برصاصه الحي، دون أي ذنب يقترفه ركابها.

مغمورون بعشقه

ميناء غزة المتواضع لم يتجاوز عمره ستة عشر عاماً، لكنه يحتضن صيادين تفوق أعمارهم السبعين عاماً، جميعهم مغمورون بعشقه وزيارته اليومية حتى لو لم يكن لقضاء حاجة، وهو في نظر الصياد الخمسيني أبو علي "بيته الثاني".

على الناحية الشمالية من الممر الترابي أو كما يسميه البعض (اللسان) تتراص غرف صفيحية صدئة بجدران متآكلة، تحتضن معدات الصيادين الخاصة كالمحركات المراكب والشباك.

يتظلل الصيادون أمام غرف الصفيح هاربين من حرارة الجو اللاسعة، بعضهم يرمم شباكه، والبعض الآخر يتبادل أطراف الحديث في الأوضاع المعيشية الصعبة في ظل منعهم من الصيد.

استوقفنا الصياد أبو محمود عبد الله، في أواخر عقده السادس، وهو يرقع بصنارته شباكه المثقب، وحوله صيادون يحتسون الشاي، يسرقون النظر إلى المراكب الراسية في حوض الميناء.

توقف عبد الله عن حياكة الشبك محدثا "الرسالة" عن مهد الميناء، قائلا: "شرع في بناء مرفأ الصيادين عقب اتفاقية أسلو بعامين، بعد أن كانت السلطة الفلسطينية قد حازت على تصريح من قبل الاحتلال لإنشائه".

وأوضح الصياد أن الميناء كان في بدايته عبارة عن ممر حديدي يقطع الماء عشرات الأمتار، ما لبث أن صمد عامين حتى دمرته الأمواج والرياح الشتوية القارصة.

آنذاك كانت ترسو المراكب البحرية على جانبي الممر الحديدي، ويقول الصياد عبد الله :"كان ممرا هشا، ولم يستوعب مراكب الصيد كافة للرسو على جانبيه".

يشير صياد آخر يدعى أبو محمد الهسي في العقد الرابع من عمره، بإصبع يده إلى الممر الترابي ويقول: "هذا الممر شرع في بنائه بعد تدمير الممر الحديدي (..) كانوا يجلبون المكعبات الأسمنتية الضخمة  والصخور، من الضفة الغربية ويرصونها فوق بعضها، معبدين بذلك طريقا منحنيا لترسو المراكب في الحوض الذي كونه".

مناسب

صيادو غزة قنوعون بمينائهم المتواضع، فهو بإمكاناته البسيطة يستطيع أن يحمي مراكبهم من غدر الموج وشراسة الريح، ويقول الصياد الهسي "صحيح أن هذا الميناء لا يضاهي موانئ مجاورة رأيناها، لكنه بالنسبة لنا كصيادين، وحسب الإمكانات المتوفرة، فهو مناسب".

استغرق بناء الميناء كما يؤكد صيادون، ستة أعوام، لكن أعمال الصيانة لا تزال تجري له دوريا.

وتجري وزارة النقل والمواصلات بين الحين والأخر أعمال صيانة للميناء، سواء من خلال زيادة مد شريط اليابس داخل الماء، أو  حتى عبر زيادة ارتفاع جداره الكاسر للموج.

يقال إن "مصائب قوم عند قوم فوائد"، ربما هذه العبارة المشهورة تحققت في ميناء غزة، حيث جرى الاستفادة من ركام الدمار الذي خلفته الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة مطلع العام 2008 في تثبيت أركان الميناء.

الحصار المفروض على قطاع غزة للعام الرابع على التوالي، فعل ما فعل في هذا الميناء، حيث حال دون جلب الاسمنت لتطويره وإعادة ترميه في كثير من الأوقات، كما أنه شهد حكايات لصيادين حوربوا في لقمة عيشهم، و"طفحوا الدم" من أجل توفيرها.

كما أن الميناء مرسى لآلاف المراكب الحية، فهو أيضا مرسى لقوارب هالكة ميتة، قتلتها الزوارق الحربية التي لا تتوانى عن فتح النار على الصيادين، والتي تدعي السماح لهم بالإبحار مسافة ثلاثة أميال، في وقت قال فيه الصياد أبو محمد أبو ريالة: "المسافة التي نقطعها في الصيد هي ميلين فقط، وفي كثير من  الأحيان فتحت الزوارق الحربية النار علينا قبل تخطي الميلين".

وميناء غزة بالمفهوم الدقيق هو مرفأ للصيادين وليس ميناء بحرياً، لاسيما أنه يفتقد للكثير من الإمكانات، ولكن ماذا لو استفاقت غزة صباحا على صوت البواخر القادمة؟.

سؤال مهم طرح في الآونة الأخيرة، خاصة عقب إجهاض الاحتلال زيارة "أسطول الحرية" الذي كان من المقرر أن يصل القطاع كأكبر محاولة لكسر الحصار المفروض عليه، ولكن فرق الكوماندوز البحرية "الإسرائيلية" قطعت عليه الطريق وقتلت عشرين متضامنا أجنبيا على متنه.

وكانت قد رست في حوض الميناء منذ بدء الحصار، أربعة مراكب بحرية من الحجم الكبير، جاءت في محاولة منها لكسر الحصار والعزلة السياسية المفروضة على القطاع الساحلي، الذي يقطنه مليون ونصف المليون مواطن، من بينهم ثلاثة آلاف صياد.

مزار

ميناء الصيادين أو كما يسمى "مرفأ الصيادين" أضحى أسما لامعا في الإعلام رغم هشاشة إمكاناته، كما كان خلال التحضيرات الجارية لاستقبال أسطول الحرية، أشبه بمزار يرتاده الشخصيات الرسمية الحكومية والإعلاميين والمواطنين أيضا، ليتابعوا عن كثب عملية التجهيزات، التي تخللها إنشاء ممر آخر يابس مستقيم على الناحية الشمالية من الميناء يعبر البحر قرابة المئة متر، وذلك حتى يتسنى للمتضامنين النزول من على متن السفن، واشتمام هواء غزة المعبق بالمعاناة.

وأصبح يلتقي في الميناء يابسان بينها ثغرة تمثل بوابة لعبور المراكب، يحتضنان حوضا مائيا كبيرا، بإمكانه أن يستقبل عددا محدودا جدا من المراكب الضخمة، كما يقول الصياد الخمسيني أبو علي.

ويضيف الصياد وهو يرتشف سيجارته قبالة حوض المائي: "الحوض يستوعب القليل من المراكب الضخمة (..) لا يمكننا أصلا أن نحوله إلى ميناء بحري في ظل وجود الاحتلال، لأنه وبكل بساطة لن يسمح لنا بالاستقلالية، كما أن مساحة الميناء صغيرة ولا تسمح باستقبال سفن تجارية ضخمة".

حتى أن حوض الميناء يستوعب  خمسين بالمئة من مراكب الصيادين متوسطة الحجم، فيما ترسو خارج الميناء الخمسين في المئة المتبقية.

وفي محاولة لتحويل ميناء غزة إلى نافذة على العالم وخلاص من الحصار، أجرى باحثين دراسة بحثوا خلالها إمكانات فتح خط بحري يربط غزة بميناء لارنكا القبرصي، وعدد من الموانئ القريبة الأخرى.

وتشدد الدراسة على وجوب عدم الخلط بين مرفأ الصيادين وميناء غزة البحري الذي كان من المفترض أن ينشأ عقب اتفاقية أسلو، مشيرة إلى أنه لا يمكن تطوير المرفأ ليصبح ميناءاً بحرياً مهما وفرت له من الإمكانات، لاسيما أن أسس إنشاءه غير سليمة اعتمدت على دعم المرفأ بمخلفات مواد البناء والردم إضافة إلى وضع بعض الساندات الخراسانية مختلفة الأشكال والأحجام لتثبيت هذا الرم وهذا ما اعتبرته الدراسة بأنه غير كافيا على الإطلاق.

وأشارت الدراسة التي أعدها مختصون في القانون الدولي، من بينهم خبير القانون الدولي د.عبد الله الأشعل، إلى أن ميناء غزة البحري المقترح هو الذي جرت عليه مفاوضات بين السلطة والاحتلال واستمرت لأكثر من عشر سنوات، ويوجد له مخططات كاملة ومبالغ مرصودة لإنشائه إلا أنه لم ينفذ بسبب المعيقات الصهيونية التي كانت تهدف إلى منع السلطة من إقامته.

وجرى تحديد موقع ميناء غزة البحري عند المنطقة الواقعة بين خط مفترق الشهداء-البحر (نتساريم) ووادي غزة، وذلك بناء على دراسة أجرتها شركة هولندية متخصصة لتحديد أفضل منطقة في ساحل القطاع تصلح لإنشاء الميناء مع تقييم الأثر البيئي المتوقع للميناء على سواحل القطاع التي تقع شمال موقع الميناء وسواحل فلسطين المحتلة خصوصا على ساحل منطقة المجدل واسدود.

الضغط على السلطة

وسبق لشركة أجنبية أن عرضت على السلطة بعد عام 2000 أنشاء ميناء عائم بدل إنشاء ميناء غزة البحري الدائم بتكلفة 45 مليون دولار، وادعى ممثل الشركة أنه يحمل موافقة "إسرائيلية" مقابل إلغاء فكرة إنشاء ميناء بحري دائم في القطاع.

وحاول عدد من مسؤولي السلطة تبني الفكرة، لولا أن عدد من المتخصصين والفنيين الفلسطينيين رفضوا المشروع بقوة، لاسيما أن الهدف منه هو وضع السلطة تحت الضغط الدائم بحيث يتم تفكيك هذه الميناء في حالة وصول المفاوضات بين الجانبي إلى طريق مسدود.

وتقول الدراسة التي أشرفت عليها مؤسسة إبداع للأبحاث والدراسات، "الإمكانات المتوفرة حاليا والتي يمكن استخدامها في إطار الحلول الخلاقة لكسر الحصار وتثبيت الخط البحري بين غزة ولا رنكا، تتمحور جميعها باتجاه واحد فقط، وهو توقف سفن النقل التجارية والأفراد عند منطقة الخطاف (عمق مياه مناسب للسفينة) بعمق لا يقل عن كيلو متر واحد من خط الساحل، ومن ثم نقل وتفريغ البضائع إلى منطقة المرفأ ثم إلى داخل القطاع.

وبناء عليه قدمت الدراسة ثلاث اقتراحات لتنفيذ عملية النقل والتفريغ من عرض البحر وهي على النحو الأتي:

أولا: يتم نقل البضائع على ظهر السفينة المتوقفة عند الخطاف بواسطة لنشات الجر التي يملكها الصيادين وتحميلها بواسطة العمال ومن ثم نقلها إلى المرفأ وتحميلها على الشاحنات وكذلك الحال بالنسبة لسفن الركاب.

ثانيا: يتم شراء أو استئجار عبارة متوسطة الحجم تتسع لنقل ما بين 2000-3000 طن لتقوم بعملية نقل الأفراد والبضائع من السفن إلى المرسى، وميزة هذه العبارة إنها تستطيع نقل كمية كبيرة من البضائع دفعة واحدة وتحميلها من خلال "ونشات" السفينة الكبيرة.

 ثالثا: أن يتم الاتفاق مع إحدى شركات النقل البحري الأجنبية لنقل البضائع إلى القطاع، ولكن في هذا الاقتراح تكون الشركة الناقلة هي من سيحضر العبارة وهي من سيزود المرفأ ببعض التجهيزات اللازمة، خصوصا عملية تعميق الحوض.

وفي ضوء دفع الحكومة الفلسطينية في غزة باتجاه فكرة إنشاء خط ملاحة بحري بغية كسر الحصار عن غزة، جرى الحديث عن محاولات فلسطينية لإفشال هذا المشروع.

ووجه القيادي في حركة حماس د.خليل الحية اتهاما لـ"سلطة فتح" في رام الله، بالمشاركة في الحصار المفروض على قطاع غزة، مشيرا إلى أنها لا يروق لها تنفيذ فكرة كفكرة الممر المائي.

وقال الحية لـ"الرسالة نت" : "كل يوم يثبت لنا أن سلطة فتح لا تسعى لفك الحصار وإنما فقط تتخذ من هذا الحصار شعارات لها".

 

 

البث المباشر