لم تمثل العملية البطولية التي نفذها ثلاثة من المقاومين في البلدة القديمة من القدس والمسجد الأقصى صباح الجمعة الماضي ضربة موجعة فقط للاحتلال الصهيوني، بل وجهت صفعة للأطراف الفلسطينية والعربية التي تحاول إملاء جدول أولويات يناقض توجهات الأمة ويحابي المحتل وظهيره الأمريكي.
فقد أعادت العملية للصدارة قضية القدس بشكل خاص وأعادت الاعتبار للقضية الفلسطينية التي تتواصل المحاولات لطمسها وتبهيتها والالتفاف عليها، علاوة على أنها دللت لدوائر صنع القرار في تل أبيب حجم الثمن الباهظ الذي ستدفعه (إسرائيل) في حال واصلت سياساتها الهادفة إلى تغيير الوضع القائم في القدس عبر مواصلة تنفيذ مخطط تهويد المدينة والحرم القدسي الشريف.
فقد جاءت العملية بعيد قرار القضاء الإسرائيلي السماح للوزراء والنواب الصهاينة بتدنيس المسجد الأقصى مجددا، بما يشكل تجاوزا للتعهدات التي قدمتها (إسرائيل) للأردن. ناهيك عن أن هذه العملية تمثل ردا مباشرا على تصعيد المستوطنين الصهاينة ضد الحرم الشريف، واستفزازهم لمشاعر العرب والمسلمين بالتباهي بإشهار عقود القران للشباب والشابات اليهود داخل الحرم.
إلى جانب ذلك، فقد أظهرت العملية مجددا لدوائر صنع القرار في تل أبيب أن الإجراءات والاحتياطات الضخمة التي تقوم بها الأجهزة الأمنية في القدس، والتي بلغت ذروتها في خطة الاستنفار الدائم التي أقرها وزير الأمن الداخلي الصهيوني جلعاد أردان، لن تحول دون تصميم الشباب الفلسطيني على إجبار المحتل على دفع ثمن باهظ لقاء سياساته العدائية تجاه القدس والأقصى.
ومما لا شك فيه أن انتماء منفذي العملية لفلسطينيي الداخل المحتل وقدومهم من مدينة أم الفحم، يشكل تطورا نوعيا على صعيد المقاومة ضد الاحتلال، وهو تطور أشعل الأضواء الحمراء لدى دوائر صنع القرار في تل أبيب. فمحافل التقدير الإستراتيجي في (إسرائيل) تعي خطورة ودلالات انضمام فلسطينيي 48 إلى ركب العمل المقاوم. فنظرا لتمتع هؤلاء الفلسطينيين بحقوق "الجنسية" الإسرائيلية بإمكانهم أن يتحركوا بحرية كبيرة داخل (إسرائيل) والقدس، علاوة على أن قدرة السلطات الصهيونية على اتخاذ إجراءات احترازية ضدهم محدودة، وذلك بخلاف الإجراءات التي تتخذ ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية. ومما لا شك فيه أن حرص نتنياهو على إجراء مشاورات عاجلة مرتين مع قادة أجهزته الأمنية يعكس المخاوف من تفجر هذه المعضلة. ومما يفاقم الأمور سوءا بالنسبة لنتنياهو أنه يجد نفسه مضطرا لاتخاذ إجراءات استعراضية من أجل استرضاء قواعد اليمين وهو ما يمكن أن تفاقم التحديات الأمنية وتمس بمكانة (إسرائيل) الإقليمية.
وتدرك محافل التقدير الإستراتيجي في تل أبيب أن قرار إغلاق المسجد الأقصى لأول مرة منذ العام 1948، الذي اتخذه نتنياهو من الممكن أن يتسبب بحد ذاته في إشعال مواجهات كبيرة ويومية داخل القدس والضفة الغربية وفي مناطق 48، علاوة على أنه يمكن أن يحدث اضطرابات في دول عربية مجاورة.
وتمثل تداعيات العملية إحراجا كبيرا للسلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس، الذي سارع لتقديم التعازي لنتنياهو على مقتل جنوده، ولم يعز باستشهاد منفذي العملية. فأي ظروف يمكن أن تقود إلى تفجر العمليات ضد الاحتلال بشكل مكثف سيزيد من التحديات أمام الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة وإسرائيل ويقلص من تأثير التعاون بينهما في منع هذه العمليات. وفي حال تواصل تنفيذ العمليات، فإن حكومة اليمين المتطرف لن تتردد في تحميل سلطة عباس المسؤولية عنها من أجل تسجيل نقاط سياسية، وسيمثل مسوغا لإقدام إدارة ترامب على معاقبة السلطة.
ومما لا شك فيه أن هذا القرار من شأنه أن يتسبب في ضرر سياسي كبير، ويقلص من قدرة تل أبيب على الاستفادة من التحولات التي تحدث في العالم العربي، سيما أن تل أبيب راهنت على أن تسهم الأزمة الخليجية الأخيرة في تسريع وتيرة التطبيع بينها وبين عدد من الدول العربية، سيما الدول التي اتخذت قرار مقاطعة قطر.
فقدرة الدول العربية التي لا تقيم علاقات دبلوماسية مع تل أبيب على توسيع علاقتها معها في ظل هذا القرار محدودة للغاية. في الوقت ذاته، فإن قرار إغلاق الأقصى سيرخي بتأثيراته على العلاقة بين (إسرائيل) والأردن. مع العلم أن الأردن قامت قبل عامين بسحب سفيرها من تل أبيب احتجاجا على الإجراءات الصهيونية التصعيدية في القدس.
من هنا، فإن عملية القدس تحمل في طياتها تغيير مسار الواقع السياسي والأمني والإقليمي، سيما في حال واصل نتنياهو الخضوع لجنون التطرف الذي يعصف باليمين الإسرائيلي.