كانوا متعَبين
يتخفّفون من دماءِ الزيزفون
المتخثّرةِ على أثوابهم.
وكانَ المنادي ينادي
كيلا يتأخّروا عن موكبِ رحيلِهم الطويل.
تركوا خلفَهم رجلًا أحبّوه
وقد ماتَ،
وتركوا مدينةً لسعتْهم بسياطها
وماتت.
حتّى النّهرُ الذي حفر مجراه
في جثثِ أحلامهم،
وكان يُبقيها نضرةً
في رحلتها إلى مثواها الأخير،
تخلّفَ عن الركب مؤخّرًا.
***
نظره أحدهم متسائلًا:
هل مات أيضًا؟
***
سجّاه في تابوتٍ من رخام؛
بيْد أنّه لم يحملْه على كتفه،
ويصطحبْه إلى حيث يمضي،
بل قرأ عليه تعويذتيْن
لإراحة الضمير
- وقد قيل إنّ المياهَ تردُّ الصدى
حتّى بعد أن تموت -
ألقى عليه الوداعَ الأخير
وغاب ...
ولا أحد يدري حتّى اليوم
من منهما اختارَ الغياب.
***
ليسَ هناك ما يرجعون إليه، إذًا.
ولأنّه قد مات ليلًا،
ولأنّ الأنهارَ عادةً
- خلافًا للمدن -
لا تموتُ ليلًا،
فقد ذرفوا نجومًا وكواكبَ،
وأسبلوه على جنحِ يمامةٍ خريفيّةٍ
في الصباحِ الباكر.
فبكوا سحابةً بيضاء
ونبتتْ من أحزانهم قرنفلةٌ
بلونِ المياه؛
فالمياهُ دماءُ الأنهار والأحلام.
***
وكان كثيرٌ من الدجّالين
يقصّون الحكايات،
ويدّعون أنّهم اغتسلوا
بمياهِ النهرِ الفقيد.
***
وكان الوقتُ يتبرّأ
من كلِّ ما قيل فيه من الأمثال،
وينضمُّ بكلِّ سرور
إلى قائمةِ قتلى المعارك الهامشيّة.
وكانتِ الذكرى بحيرةً
من دمٍ ومن لحمٍ حيّ.
وكان هناك الكثيرون من الغرقى:
أحدُهم أطلق النارَ على صورته
في المياه
قبل أن يتقيّأ نجمةً
سقطتْ في فمه
من بين أصابع جدّته
حين كانَ يجلس كهرٍّ أليفٍ في حجرها
قبل حربيْن ونيّف
أو ربّما قبل مدينةٍ وبساتينِ لوز.
***
ألقى بنفسه في المياه
لم تتصاعد بعده أيُّ فقاعات
كالتي تطلقها الأرواحُ
في وداع توائمها من الطين
ولم يتغيّر وجهُ الماء.
كان سكونٌ لاذعٌ،
وكان صمتُ
الذكرى الوحيدة التي تركها
بقعةً حمراء
على عدسة المصوّر
وبضع نغماتٍ ذاوية
في أغنية المغنّي.
العربي الجديد