بعد أكثر من نصف قرن على فشل مشروع للدفاع الأوروبي قاومته بريطانيا، وسبع سنوات من المصادقة على معاهدة الاتحاد الأوروبي في لشبونة، أطلقت 23 دولة في الاتحاد حقبة جديدة من التعاون الدفاعي، عبر برنامج استثمار وتطوير عسكريَين يستهدف مواجهة التحديات الأمنية التي تواجهها القارة العجوز.
ووقّعت الدول الـ23 مذكرة المشاركة في آلية «التعاون العسكري الدائم»، والتي ستمكّن الدول المعنية من توحيد الموارد المالية واللوجيستية العسكرية التي تؤهلها في مستقبل قريب لتنفيذ عمليات عسكرية ومهمات تدريب في مناطق الجوار الأوروبي.
واعتبرت وزيرة خارجية الاتحاد فيديريكا موغيريني التوقيع حدثاً تاريخياً، إذ يفتح «صفحة جديدة في سجل الدفاع الأوروبي، ويتيح زيادة تطوير قدراتنا العسكرية لتعزيز استقلاليتنا الاستراتيجية».
وتحدث وزير الخارجية الألماني زيغمار غابرييل عن «خطوة تاريخية»، وزاد: «نتفق على تعاون مستقبلي في شأن القضايا الدفاعية والأمنية. هذه لحظة فارقة في التطور الأوروبي». ولفتت وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون در ليين إلى «أمر مكمّل للحلف الأطلسي»، منبّهة إلى أن على «أوروبا أن تسوّي المشكلات الأمنية التي تواجهها في محيطها».
وسيُصدر وزراء خارجية دول الاتحاد، خلال اجتماع في 11 كانون الأول (ديسمبر) المقبل، قراراً تشريعياً ملزماً بالنسبة إلى كلّ من الدول الـ23، والتي لا تضمّ بريطانيا وإرلندا والبرتغال ومالطا والدنمارك.
وسيتولى خبراء فوراً مهمة انتقاء برامج التطوير التكنولوجي والمشاريع الصناعية المشتركة التي تعوّل عليها الدول الكبرى من أجل ردم هوّة التقدم التكنولوجي التي تفصل بين الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.
وقالت موغيريني إن الدول الموقّعة على المذكرة قدمت أكثر من 50 اقتراحاً تتعلّق بمشاريع بحثية وبتطوير صناعي عسكري، علماً أن غالبية دول الاتحاد تفتقر عسكرياً إلى قدرات النقل الاستراتيجي والأقمار الاصطناعية والقيادة المركزية.
ورأى وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان أن الآلية «تؤكد التزاماً بتعزيز الدفاع الأوروبي وفق المبدأ الوارد في معاهدة لشبونة»، وأوضح أن الآلية هي نتيجة مبادرة فرنسية - ألمانية طُرحت خريف عام 2015، على خلفية تحوّلات شهدتها هندسة الأمن الأوروبي. وتابع أن آلية التعاون العسكري الدائم «ستتجسّد من خلال التزام أطرافها زيادة الإنفاق العسكري وتحسين جودة التعاون في ما بينها».
وتستند الآلية الجديدة إلى تفاعل عناصر كثيرة أفرزتها متغيّرات أمنية، أوروبياً ودولياً، في السنوات الأخيرة، لا سيّما منذ ضمّ موسكو شبه جزيرة القرم عام 2014 واندلاع النزاع الانفصالي في شرق أوكرانيا، إذ اعتبر الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أن روسيا بدّلت أحادياً الحدود الموروثة عن معاهدة يالطا (1945). كما واجهت أوروبا أزمة تدفّق اللاجئين عبر اليونان وإيطاليا، إذ دخل أراضيها أكثر من مليون لاجئ ومهاجر في غضون شهور.
وصُدِمت أوروبا باستفتاء بريطانيا على الانسحاب من الاتحاد، عام 2016، خصوصاً أنها عضو دائم في مجلس الأمن والقوة النووية الثانية في أوروبا، إلى جانب فرنسا. كما تفاقم قلق أوروبا من منحى انعزالي للولايات المتحدة، بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً عام 2016، والذي رفع شعار «أميركا أولاً» ودعم «طلاق بريطانيا» وشكّك في جدوى الحلف الأطلسي.
وقال مصدر لـ «الحياة» إن «الأخطار التي تهدّد الأمن الأوروبي تقع خصوصاً في مناطق الجوار، في شمال أفريقيا والشرق الأوسط والقوقاز، واقتضت محاولة تفعيل بند التعاون الهيكلي الدائم الوارد في معاهدة لشبونة»، والذي قد يتيح توحيد القدرات العسكرية اللازمة لتنفيذ مهمات تدريب وحفظ السلام والتدخل خارج حدود الاتحاد، كما في منطقة الساحل الأفريقي حيث تهدد تنظيمات إرهابية جزءاً من القارة الأفريقية. وسيصدر وزراء الخارجية الشهر المقبل قراراً ملزماً بالنسبة إلى كلّ من دول الآلية. وستُتخذ القرارات في شأن المشاريع والبرامج والعمليات العسكرية، وفق قاعدة الغالبية لا الإجماع. ولا تتمتع أيّ من دول الآلية بحق النقض (فيتو).
وأشار ديبلوماسي أوروبي إلى أن الآلية تستند إلى الموارد التي سيؤمّنها «صندوف الدفاع الأوروبي» لتمويل برامج البحوث والتطوير العسكريَين، ومشاريع الصناعات العسكرية المتقدمة. وتبلغ قيمة الصندوق 500 مليون يورو لتمويل المشاريع الصناعية، و90 مليون يورو لتمويل برامج البحوث والتطوير حتى عام 2020. ثم تُرفع تمويلات البحوث إلى 500 مليون يورو بعد تلك السنة.
ورحّب الأمين العام لـ «الأطلسي» ينس ستولتنبرغ بالآلية، معتبراً أنها «ستتيح زيادة الإنفاق العسكري ورفع مستوى القدرات وتحمّل الاتحاد مزيداً من المسؤوليات في الدفاع عن أوروبا».
الحياة اللندنية