"ألواح بلاستيكية تغطي نوافذ الزنزانة، يخيل للناظر للوهلة الأولى أنها ألواح زجاجية، لكن حين يدقق النظر بها يجدها رقائق من البلاستيك، لا تقي من البرد ولا تسمن من دفء ولا حتى شيئًا بسيطًا"، بهذا الوصف استهلت الأسيرة المحررة هيفاء أبو صبيح حديثها وهي تروي طقوس ليلة عاصفة في سجن الدامون.
ففي حين ينتظر كثيرون فصل الشتاء بأجوائه وطقوسه، إلا أن الغيث يبكي آخرين، فالنازحون وسكان الكرفانات والأسرى ممن لا تتوفر لديهم إمكانيات يواجهون بها طقوس الشتاء، يلقونه ضيفًا ثقيلًا يحل عليهم، كحال القابعين في "الدامون".
ويقع سجن الدامون أقصى شمال الداخل المحتل في حيفا، ويتوسط قلعة الدامون دالية الكرمل، تحيط به الجبال وعلى قمتها السجن، تقول "أبو صبيح": "لقربه من البحر فمع بدء الشتاء تبدأ معاناة الأسيرات فيه من حيث البرد والعواصف وقلة الملابس ولوازمه التي تمنع إدارة السجون إدخالها بكميات كافية".
وتحوي الزنزانة في سجن الدامون ثمانية عشر برشًا (سريرًا) في الغرفة التي كانت تقبع بها "أبو صبيح"، والغرفة المجاورة كان بها ثمانية أسرة، والزنزانة محاطة بنوافذ صغيرة مستطيلة الشكل على طول محيطها.
وتغطي القطع البلاستيكية هذه النوافذ، وعنها تقول "أبو صبيح" أنها مع نسمة هواء خفيفة كانت تخرج صوتًا طول الليل أو النهار يسبب إزعاجًا وضجرًا وقلقًا للأسيرات لا سيما في ساعات الليل الموحشة في السجن"، مضيفة: "كنا نلجأ إلى تثبيتها بالمحارم لكن كنا نفشل في ذلك دائمًا".
وكانت بعض الأسيرات ممن يكون سريرهن تحت هذه النوافذ يستيقظن على رذاذ الأمطار الذي يتساقط عليهن دون سابق إنذار، كما تقول، وتابعت "والأدهي حين كنا نستيقظ على صوت الألواح البلاستيكية وهي تسقط على الأرض أو على رؤوس الأسيرات".
تستذكر "أبو صبيح" كيف أن أسيرات سجن الهشارون استغربن من برودة الزنزانة في الدامون حين اضطررن بأمر من إدارة السجون حين تم نقلهن، ولم يكن يعلمن أن أجواء الدامون تختلف كليًا لقربه من البحر، مضيفة "لم يكن للأسيرات أغطية كافية فقامت رفيقات الأسر بإعطائهن من أغطيتهن التي تكون قليلة في الأساس".
فالتعاون بين الأسيرات كان يتجلى بشكل واضح في فصل الشتاء، إذ تمنع إدارة السجون إدخال كميات كافية من لوازم الشتاء، فيتقاسمن الأغطية والملابس المتوفرة لديهن، "كانت بعض الأسيرات تؤثر غيرها على نفسها ولا تملك وقتها إلا أن يكون جلبابها هو غطاؤها بالإضافة إلى بعض ملابسها"، وفق قولها.
"مهما كانت الظروف والبرد القاتل في النهاية نستسلم للنوم لعله ينسينا بعضًا من مآسي السجن، ويشعرنا بالدفء" تقول "أبو صبيح"، مستدركة بقولها: "لكن ما كان يقطع نومهن وينزع الدفء الذي بالكاد يشعرن به بعد مدة هو صوت السجانة وهي تصرخ "عدد".
وتتابع حديثها "عند العدد وهو قانون من قوانين إدارة السجون، تعد فيه السجانة الأسيرات يوميًا صباح مساء، إذ يجب الاستيقاظ والنهوض من الفراش ومقاومة البرد ولبس ملابس الصلاة والانتظار بالصقيع ليدخل السجانون وهن واقفات للعدد، تحكي: "وبكل برود أعصاب يعدون واحد .....اثنان ....إلى18 ثم بكل حقارة يقول الضابط (انتو صحيح 18)".
ثم يغادرون لتأخذ كل منهن موقعها في "برشها" وتحاول لملمة أجزائها من جديد، وتوهم نفسها بأنها شعرت بالدفء ثانية، ليصدمهن صوت السجانة من جديد "سوراجيم" أي (دق الأبواب والشبابيك)، وفق المحررة أبو صبيح، موضحة أن هذا الفحص لا يتم والجميع في الزنزانة، بل تكون الأسيرات في ساحة السجن تحت المطر والبرد يخرجن وهن يلففن حول أجسادهن شيئًا من الأغطية يختفين تحتها كي لا يمرضن من البرد القارس، ولا يرى وقتها منهن إلا عيونهن.
"وهنا يتلذذ السجان بالفحص للشبابيك يصعد على الأبراش ليدق في مطرقة خاصة على كل نافذة وكل حديدة فيه، ثم ينزل ويبدأ بدق البلاط بلاطة بلاطة وكذلك الحمامات والمرافق"، تختم أبو صبيح مؤكدة على أن إدارة السجون تتعمد تعذيب الأسيرات والتنغيص عليهن في فصل الشتاء سواء في البوسطة أو في أقبية التحقيق أو الزنازين.
وقضت أبو صبيح (38 عامًا) نحو عامًا ونصف في سجون الاحتلال، وهي الآن ناشطة في شؤون الأسيرات ومتابعة لمعاناتهن، وتسعى إلى نشر أوجاعهن وإيصالها للجميع عبر منصات التواصل الاجتماعي.