لا ندري هل هو يمكن تصنيفه على انه مخطط طويل وبعيد المدى، أم ندرجه في دائرة المؤامرة التي طالما قلنا انها تحاك ليس ضد الحق الفلسطيني فقط بل ضد وحدة وقوة وحضور الأمة العربية بأكملها، ام هو مجرد صدفة...
بداية جمع العالم العربي والعالم الاسلامي حكم واحد سمي بالخلافة التي كان مقرها الآستانة او ما كان يعرف بالباب العالي والذي استمر قرابة الـ 400 عام.
ثم انتهى هذا الحكم الجامع بعد الحرب العالمية الأولى 1918، وانهارت الخلافة الاسلامية بهزيمة تركيا وانقلاب اتاتورك وتحويل تركيا الى العلمانية.
ثم حول المنتصرون في الحرب العالمية العالم العربي والاسلامي الى دويلات مقسمة مفتتة متنازعة متخاصمة، ثم امعنوا في اعقاب الحرب العالمية الثانية في هذا التقسيم على اسس اثنية وطائفية ودينية متداخلة لضمان استمرار الخصام والتنازع تارة على الحدود وتارة على الثروات والنفوذ.
ورافق هذا التقسيم منح بريطانيا فلسطين كهدية لإقامة وطن قومي لليهود بناء على وعد بلفور الشهير سنة 1917، وأعلن اليهود قيام "اسرائيل" سنة 1948، وما رافق ذلك من حرب تطهير شنتها عصابات مدججة بالسلاح الغربي المتطور ضد شعب فلسطين الأعزل، لإجباره بالمذابح والمجازر اللاإنسانية على الفرار من وطنه نحو المجهول بما عرف فيما بعد بالنكبة الفلسطينية، والتي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا.
حينها اجمعت الدول العربية على ارسال جيوشها لتحرير فلسطين 1948، ومن مفارقات التاريخ ان يقود هذه الجيوش ضابط بريطاني جلوب باشا، تآمر مع اليهود لتسليم فلسطين في أكثر المسرحيات السياسية المكشوفة في التاريخ.
وكي تتخلص الأنظمة العربية المرتبطة بالدول الاستعمارية من الحرج أمام شعوبها قامت بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية بدعوة من الرئيس المصري جمال عبد الناصر 1964، ليسهل عليها التحكم في القرار والنضال الفلسطيني بما لا يحرج هذه الأنظمة امام شعوبها وأمام حلفائها الغربيين.
حينها كانت القضية الفلسطينية تتميز بإجماع عربي واسلامي وكانت تمثل قضيتهم الاولى، وتمثل ذلك في اعقاب حريق الأقصى 1969 الذي نفذه اليهودي الاسترالي مايكل روهن والذي رمي بالجنون، ليتم ترحيله الى استراليا دون أي عقاب ليعيش حياته الطبيعية حتى سنة 1995، على اثر هذا الحريق تداعى قادة المسلمين واسسوا ما سمي بمنظمة المؤتمر الاسلامي وضمت 57 دولة عربية واسلامية لرعاية مصالح اكثر من مليار مسلم، وسميت القدس كمقر دائم لها، ومدينة جدة كمقر مؤقت حتى تحرير القدس، إلا ان الاصابع الغربية الخبيثة تسببت في افراغ هذه المنظمة من مضمونها، ثم تغير اسمها الى منظمة التعاون الاسلامي.
وكان القرار في كل ما يخص القضية الفلسطينية عربيا اسلاميا، ثم تم قصر القضية الى القرار العربي فقط عبر جامعة الدول العربية التي تأسست سنة 1945، وللمفارقة اقيمت الجامعة تنفيذا لاقتراح قدمه أنتونى إيدن وزير خارجية بريطانيا سنة 1943.
وامعانا في تقزيم وتهميش القضية الفلسطينية في اهتمامات وعقول ووجدان الأمة العربية والاسلامية، تم حصر القرار في كل ما يخص القضية الفلسطينية بمنظمة التحرير الفلسطينية والتي سميت بالممثل الشرعي والوحيد للقضية الفلسطينية سنة 1974.
وقادت منظمة التحرير القضية الفلسطينية من نكبة الى نكبة ومن فشل الى فشل ومن هزيمة الى هزيمة، فكانت مسؤولة عن أحداث أيلول الأسود في الأردن سنة 1970 – 1971 والتي ادت الى خروج المنظمة الأردن باتجاه لبنان.
ثم تورطت المنظمة في الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975 والتي انتهت باتفاق الطائف 1989، وبدل من توجيه النضال باتجاه تحرير فلسطين وجهت المنظمة الرصاص الفلسطيني الى الداخل اللبناني فيما كان يعرف بجمهورية الفاكهاني، والتي انتهت بخروجها من لبنان في اعقاب الاجتياح الصهيوني للبنان سنة 1982، ثم ليتورط بقايا مقاتلي المنظمة من فتح والفصائل الاخرى في حرب المخيمات من سنة 1985-1988.
وقد أنهت منظمة التحرير عمليا دور جيش التحرير الفلسطيني، الذراع العسكري للمنظمة، والذي أسسه الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم سنة 1961م حيث شكلت قوات جيش التحرير الفلسطيني سنة 1964 ثلاثة ألوية عسكرية ـ مشاة -صاعقة في كل من: مصر وقطاع غزة (قوات عين جالوت)، وفي سوريا (قوات حطين)، وفي العراق وبقي المقر العام للجيش في القاهرة إلى العام 1971.
ولم يتبقى من جيش التحرير الفلسطيني إلا ألوية مشاة/صاعقة على الأراضي السورية ويبلغ عددهم 45,000 مقاتل، وباتت تدين بالولاء إلى حزب البعث، بينما يتواجد على الأراضي الأردنية تشكيل رمزي للجيش ومن المتطوعين فقط بعد العام 1971 تحت اسم كتيبة زيد بن حارثة التي تحول اسمها عام 1980 إلى قوات بدر.
ثم قزمت منظمة التحرير القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني لكامل التراب الوطني الفلسطيني الى قضية اعتراف برمزيات وتمثيل في منظمات دولية لا تغني ولا تسمن من جوع، واعتراف بسلطة ثم دولة على اقل من 22% من فلسطين التاريخية، ومع عاصمة مصادرة عمليا منذ 1967 ومصادرة بقرار ترامب 2017، وذلك منذ دخول المنظمة الى دهاليز مدريد واوسلوا منذ سنة 1991 حتى يومنا هذا، بكل ما رافق ذلك من اعتراف بقرارات دولية ومؤتمرات وتنازلات في محافل دولية عن 78% من ارض فلسطين التاريخية، وتغيير للميثاق على انغام التصفيق للرئيس الامريكي كلنتون ابان زيارته لغزة 1998.
لم تقزم المنظمة القضية الفلسطينية وتختزلها في مواضيع رمزية فقط، بل غيبت أي تفكير استراتيجي منظم وبعيد المدى لإنجاز التحرير.
وحولت المنظمة المناضلين في شتى الميادين السياسية والعسكرية الى سلطة يسودها طبقة من الوسطاء بين الاحتلال وبين الشعب، وبات العدو يحكم الشعب الفلسطيني عبر السلطة، فلا غرابة اذا ان يعتبر رئيسها محمود عباس ان التنسيق الامني مقدس، ولا فرق عمليا بينه وبين رئيس المليشيات اللبنانية العميلة التي كانت تحكم الجنوب اللبناني انطوان لحد.
وتحولت فتح وبكل أسى وأسف إلى حركة سلطة لتوزيع الغنائم وقمع المعارضة، وخوض المعارك الوهمية.
لذا ربما بات يقع على عاتق الكل الوطني العودة بالقضية الفلسطينية الى عظمتها وألقها السابق، كقضية الأمتين العربية والاسلامية الأولى، عبر العمل على التغيير الجذري لمبنى وتنظيم الكيان السياسي الفلسطيني، بما يتجاوز منظمة التحرير التي استنفذت وأهدرت الكثير من الجهود لإصلاحها دون جدوى.
ونسج علاقات وتحالفات مع قوى وأحزاب وتيارات شعبية على طول وعرض الأمة العربية والاسلامية، دون اعتبار للحدود الاستعمارية، فمن يؤيد ويريد تحرير فلسطين من امتنا العربية والاسلامية عليه أن يكون على قدر التحدي وعلى جهوزية لدفع ضريبة الحرية.
ثم اعادة الاعتبار لقوة الجماهير الفلسطينية سواء داخل أو خارج الأراضي المحتلة، فملايين اللاجئين بكل تنوعهم واختلاف مواقعهم يعتبر أحد أهم عوامل القوة الفلسطينية المغيبة، التي بات إعادة تفعيلها في معركة التحرير من أوجب الأولويات.
والعمل على توظيف قوة جماهير الأمتين العربية والاسلامية ككتل وتيارات وكأفراد وجماعات ضمن خطة مبدعة تخرج عن الأطر والتفاصيل التي حكمت طرائق العمل فيما سبق.
ثم العمل على تجاوز السلطة المرتهنة للاحتلال لجهة الدخول في حوار وطني ملزم ومبرمج وذات سقف زمني قصير بهدف صياغة عقد اجتماعي وطني ثوري لصالح انتاج مؤسسات تمثل صوت ومصالح الشعب والأمة بشكل حقيقي، وتقوده الى تحقيق حلم التحرير.