لم تختزل تلك الجدران الرطبة حكاية فلسطين فحسب، بل حفظت بين شقوقها صوت "سليم" وهو يخبرنا بأن حمام السمرة وهبه شهادة الدكتوراه!
مقعدان من الخشب، جلس على أحدهما الحاج سليم عبد الله الوزير مع كل الحكايا التي ينوي أن يخبرها "للرسالة" والتي جلست مستمعة ومستمتعة على المقعد الثاني.
باردًا كان الجو في قاعة الضيافة، على عكس الحرارة المتدفقة من الغرف الداخلية للحمام، حيث مررنا من خلالها على عصر المماليك والعثمانيين، ووصلنا الى ابتسامة "الوزير" حين استلم حمام السمرة من والده عام 1970.
من السجن الى الحمام!
في الأول من نوفمبر لعام 1951 أبصر النور "سليم" على والده "عبد الله" مديرًا للحمام، كان الحمام هو الشغل الشاغل للجميع، الإرث، والتاريخ، والحضارة المتجددة، وكان أمرًا مفروغًا أن يخرج سليم من باب مدرسته إلى الحمام مباشرةً دون المرور بالمرحلة الجامعية وحلمه بالهندسة البحرية!
لا تبدو على ملامحه أي معالم للندم، بل كانت تجاعيد وجهه تختفي كلما يتحدث عن الحمام، ويقول:" مثل الجامعة المفتوحة لتعليم فنون الحياة(...) حمام السمرة أعطاني شهادة الدكتوراه".
لم تكن البداية سهلة بالنسبة لسليم الذي لم يتجاوز العشرين من عمره، حين استلم مفاتيح الحمام بعد وفاة والده، حيث تعثر بعدم الخبرة في المجال، وتشديدات الاحتلال على غزة، وخروجه من السجون كذلك.
حين يذكر الاعتقال كان يقبض على يده اليمنى ويغلقها تماما ثم يهزها، وهو يؤكد بأن ثمانية أشهر في سجون المحتل عام 1969 أكسبته الصلابة والحكمة، لاسيما وأنه عاش رجال الثورة وجيل التمسك بالوطن وفق قوله.
رجولة السجين وتتلمذه على يدي أصدقاء والده الراحل، جعله مديرًا للحمام في وقت قصير، ويقول هنا: "مدير على الطريقة المهنية والأثرية والطبية".
ويضيف وقد اتسعت فتحة عينيه:" صرت طبيب نفسي"، يضحك قليلًا ثم يشرح: "اختلاطي بالمتعلم والجاهل من زوار الحمام، وحديثي مع فئات الشعب باختلاف توجهاتهم، عوامل مجتمعة جعلتني أتمكن من تحديد شخصية الزائر من النظرة الأولى".
لم يقاطعنا خلال حديثنا مع "الوزير" سوى رنين الهاتف، تمامًا كصوت الجرس القديم، بين فتحات داخلية في احدى تجويفات جدران الحمام، كان سليم الوزير تمامًا كابن الحاضر الذي يتقوقع في الماضي بإراداته، هز رأسه مؤيدًا لتوصيفنا له، ثم علق بالقول: "الماضي جزء منا ونفتخر منه، أنا أعشق كل ما هو قديم، لا أستمع للأخبار الا من خلال راديو قديم تجاوز عمره الخمسين عامًا".
كان يشير خلال اللقاء بنا ببعض المقتنيات ثم يذكرنا ببعض المناسبات لها، بالإضافة لعمرها، كما كانون النار الخاص بوالده، والذي أحضروا القهوة لعرسه في "البكرج" الذي يتوسط الكانون في مدخل الحمام.
كتاب الزوار!
"من الغرفة الساخنة الى الدافئة الى الباردة هل كانت حياتك متسلسلة وسهلة كما غرف الحمام؟"، لم يكن مترددًا في اجاباته، هي ذات البشاشة على وجهه وهو يجيب:" لم تكن كذلك، لاسيما وأن كل حكايا الزوار تؤثر بي لاسيما بعد أي عدوان على غزة".
بعض القصص تبقى عالقة في ذهن الحاج سليم، كتلك الشظايا في وجه شاب عشريني، زاره بعد الحرب الأخيرة على غزة دون أطراف سفلية!
بعض الأوجاع يمتصها "سليم" من الزبائن وبعضها الآخر يزيلها بتدليك مرة شهريًا في الحمام، والآخر يعود له بــ "حلوان" لأنه ينتظر مولودًا بعد جلسات "قطع الخوفة" و"المساج"!
محمد ابن الحاج سليم اختار هو الآخر أن يعيش في جلباب والده، حيث ورث حب والده وجده للحمام، وترك دراسته الجامعية، وانشغل في مراقبة والده منذ الفجر حتى الثامنة مساءً، ليستلم المهام يومًا ما.
"أنا والحمام كما السمك في الماء، الحمام سيموت معي لو تركته لذلك أجهز ابني لاستلامه"، لم تكن جملة اعتراضية خلال حديثنا، بل كانت هي خوفه المستمر على هذا الإرث التاريخي من الضياع!
قبل أن نغادر حمام السمرة وسط مدينة غزة، وضع الحاج سليم بين يدينا كتاب الزوار، وبدأ يقلب بين دفتيه عن كبار الزوار لحمامه، من رؤساء البلديات ووجهاء المدينة، وقادة فصائل وطنية، وغيرهم من الإعلاميين والوزراء والكتاب.
كان لطاقم (الرسالة) نصيب بأن تترك رسالة بسيطة بأنها مرت من هنا يومًا، بين كبار الزوار، دعواتنا كانت له أن يستمر في مسيرة عطائه لهذا التاريخ، فلقد بات جزءًا منه، كما حلوى "البسيس" بالسمن البلدي، التي كان يوزعها في الماضي على الزوار لحظة مغادرتهم.
لم نشعر طيلة جلوسنا مع الحاج سليم أن الحمام لا تدخله الشمس، وعند زيارتك له لن تشعر أنت كذلك، فترحيب صاحبه وابتسامته، ستخال بأن النهار مقيمٌ هنا على مدار الساعة، ولا مكان للغروب بين أروقة الحمام!