قبل خمسين عامًا جلست الحاجة صالحة عبدو إلى جوار والدها وهو يحتضر، يذرف الدموع الأخيرة على انجاله الثلاثة الذين حرمهم الاحتلال من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه، تاركًا لها وصية دفنه في أرضه التي خرج منها "الكوفخة".
توفي الوالد دونما أن يودعه أبناءه الثلاثة ولا حتى زوجته التي اعتقلت هي الأخرى لدى الاحتلال قبل وفاته بأسبوع، كانت وحدها من تلقي نظرة الوداع عليه أثناء التقاطه أنفاسه الأخيرة، ثم اضطرت لدفنه في غزة حيث لا يوجد من يساعدها بنقل جثمانه إلى الكوفخة كما تقول.
وبقي حلم العودة إلى "الكوفخة" لمشاهدة منزل والدها عالقًا في نفس الحاجة صالحة، حيث تسنى لها الرجوع ذات ليلة وهي في الطريق لزيارة أشقائها الثلاثة في أحد السجون الإسرائيلية بعد وفاة والدها بأيام، حيث وجدت منزلهم وقد تحول إلى ركام.
في الطريق إلى القرية التي تبعد بضع كيلو مترات عن قطاع غزة، شاهدت تلك العجوز مسجد القرية الذي لا يزال شاهدًا حتى اللحظة على آثار الشعب الفلسطيني الذي اضطر لمغادرته عنوة بفعل جرائم الحرب الإسرائيلية قبل سبعة عقود.
وعلى جدران المسجد خطّ أبناء القرية أسماءهم وشعارات المطالبة بالعودة، وكلما مرّت على قراءة اسم اشتعل الحنين في قلبها للبقاء في هذه القرية، بعدما دفنت حلم والدها عنوة في تراب غزة.
وتنقلت الحاجة بين جدران منزلها المدمر ومسجد القرية، وحلم نقل والدها إلى مكان القرية يزيدها حنينًا للبقاء، لكنّه حلم سرعان ما انقض عليه جنود الاحتلال الذين أمروها بمغادرة القرية فورًا وعدم العودة إليها.
وعلى بعد 500م من السلك الحدودي الزائل، وبالمقربة من معبر "كارني" شرق قطاع غزة، وقفت الحاجة صالحة في نفس المكان الذي اصطحبها إليه والدها قبل 4 عقود؛ يذرف فيه دموعه على أراضيه التي سلبها منه الاحتلال بالمقربة من تلك المناطق، إضافة إلى أراضيه التي سرقها الاحتلال في منطقة الكوفخة.
تقول بصوت مرتفع: "هاد المكان فجر في قلبي الأحزان، ولم يغادر تفكيري للحظة واحدة، هناك كان يبكي والدي دمًا وهناك كان بدو يرجع يندفن في البلاد".
دفن الوالد في غزة لكن ذكرياته ووصيته لا تزال حاضرة في قلب وعقل ابنته البكر، التي بقيت واحدة شاهدة على مأساة الاحتلال بحق عائلتها، فإخوتها الثلاثة أفرج عنهم في محطات مختلفة، وجميعهم أصيبوا بأمراض في السجون.
تضيف: "توفوا جميعًا جراء الأمراض التي أصيبوا بها نتيجة التعذيب والسجون، وبقيت وحيدة مع ابنائي وأحفادي، أتجرع مرارة الألم على ذكريات الماضي، ولدي الرغبة والإصرار بالرجوع إلى الديار تحقيق أمنياتهم جميعًا بالعودة".
الحاجة صالحة، تدرك أن مسيرة العودة لن تعيدها في ذات اليوم إلى ديارها التي هجرت منها، لكنها بقيت تردد على مسامع أبنائها وأحفادها، "انتم هان عشان ترجعوا وترجعونا، وراح نرجع كلنا على ديارنا".
وأثناء الحديث معها قاطعتنا ابنتها الحاجة أم محمد التي قدمت أحد أبنائها في عدوان 2012، تقول: "قدمت شاب من أغلى اولادي، وبقي لي اربعة آخرين، وجميعهم فداء الوطن والأرض والدين".
وتشير الحاجة أم محمد إلى استعدادها لتقديم كل أبنائها من أجل تحقيق العودة، "فدماء أخوالي لن تبقى على الأرض، ولن تجف على ترب غزة".
واعتصم مئات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين على مناطق التماس الحدودية، حيث أعدمت سلطات الاحتلال 17 شابًا فلسطينيًا بدم بارد.
لم تفلح رصاصات الاحتلال دفن قصص شهداء مسيرة العودة الـ (17)، ولم يلفّ الكفن الأبيض حكايات الفقر والحرمان والفقدّ، التي وري أصحابها الثرى، دون أن تدفن مآثر الوجع والبطولة معهم.