لأول مرة يترك فيها الكاميرا، لم تكن مُعلقة على كتفه الأيمن كعادتها، فقط استند على باب ثلاجات الموتى المؤصد، وحنى رأسه أكثر باتجاهه، وكأنه تأكد للتو أن صديقه قد رحل فعلًا، فاستدرك صمته وقرر الصراخ "يا راس قلبي يا ياسر.. يا راس قلبي ارجع".
فجأة، وقفنا جميعًا، كل الألوان والتيارات كانت حاضرة لتودع الشهيد المصور ياسر مرتجى منهم من أمسك قلمه ليدون، والآخر تفقد تشغيله للمايك وظل ثابتًا في مكانه، وكثير منهم نصب كاميراته، إلا ياسر لم يكن بينهم، كان خلفنا في ثلاجة الموتى، وكنا أمامه نبكيه!
جئنا إلى هذه البقعة من غزة وهي الشاهد على أبشع مجازر الاحتلال لنؤكد على أن الاحتلال بهمجيته لم يفرق بين مدني أو عسكري أو حتى صاحب خوذة كُتب عليها صحافة، والتي من المفترض أن تمثل خطًا أحمر لا يمكن لسلاح العدو اختراقه بحسب قوانين ومعاهدات حقوق الإنسان.
كان صوت الأطر الصحفية واحدًا لأن الضحية واحدة، فمتى يدرك المحتل الإسرائيلي أن "برس" تعني صحافة، وأن صحافة تعني لا رصاص!
أن تخاطب ميتًا كأنه يقف أمامك مباشرة، توبخه، ثم يعلو صوتك وأنت تقول له:" يا رجل ليش رحت، يا رجل انت بتتعوضش"، كان مشهد الافتتاحية حين أبكى صديق الشهيد المصور محمود أبو حمدة الحضور قبل أن يشيع ياسر!
قد لا يدرك ياسر قبل غيابه القسري أن من عرفه ومن لم يعرفه سوف يشعر بمرارة الفقد، فعليًا قد رُفع ذكر ياسر وغزة معًا!
كانت الفاتحة أول ما تمتم به الحاضرون، بعدها الدعوات لياسر بالرحمة، لم يكن سهلًا الحديث المطول عن شهيد أبسط أحلامه لخصها بقوله "نفسي يجي اليوم الي آخد هاي اللقطة وأنا بالجو مش ع الأرض.. عمري ما سافرت"، سافر ياسر وحده وتركنا جميعًا على الأرض.
" أبلغ فضل شناعة يا ياسر أبلغه أننا مشتاقون" كانت الرسالة الأولى من رئيس منتدى الإعلاميين عماد الإفرنجي الذي دعا إلى الوقفة الصحفية مع دماء شهداء الحقيقة والجرحى خلال تغطية فعاليات مسيرة العودة الكبرى عند السياج الحدودي الفاصل.
"شناعة" الذي رحل عنا قهرًا وقسرًا أيضًا في ابريل قبل عشر سنوات حين اغتالته رصاصة حقد إسرائيلية خلال تغطيته الإعلامية كذلك.
مطالبات بفتح تحقيق بجريمة اغتيال ياسر، وأخرى بتوفير الحماية الدولية للصحفيين من الاعتداءات الإسرائيلية، قطعها خروج جثمان ياسر على الأكتاف!
علم فلسطين كان يغطيه بأكمله إلا وجهه كان مكشوفًا للسماء، فلاش كاميرا أصحابه زاد وجهه بريقًا، ثم شُيع معه درعه المحفور عليه "برس" حيث ألقاه أحد أصدقائه على جثمانه وكأنه رسالة جديدة للعالم من غزة!
مجددًا كان الدرع معه، يجوب وإياه سويًا شوارع المدينة، التي حاول ياسر مرارًا أن ينبش عن جمالها فتعكسها كاميراته لنا، وقد تواجدت هي الأخرى فوق قبره لتأخذ لقطة جوية أخيرة حين غاب ياسر عنها ونام نومته الأخيرة!
ودعوه جميعًا، قبلوا جبهته، وهم يدركون جيدًا أنه قد يأتي اليوم الذي يمسون فيه كما ياسر!