في بيت الشهيد "ساري أبو عودة"

جداران يلخصان الحكاية: "مبارك للعريس" و"نحتسبه شهيدًا"

صورة
صورة

غزة-ياسمين عنبر

في بلادي حتى الجدران تنطق بحق الفلسطينيين فيها، تؤرخ لهم مسيرتهم القصيرة في هذه الحياة، قهرهم، ألمهم، وارتقاءهم قبل مواقيت العودة والانتصار.

على مدخل منزل شهيدٍ من البلاد النازفة حائطٌ أرخ ليوم زفافه، لم تجف آثار الرسم فيه ولا سعادة الأم والعائلة بعد، وعلى الجدار الآخر خطت كلمات الوداع للفرح فيهم، لتبقى الكلمات التي خطت تذكرهم كل يوم أن ابنهم الذي كان العريس قد ارتقى إلى مواقيت الفرح في السماء.

ما بين "مبارك للعريس" و"نحتسبه شهيدًا" على الجدارين المتقابلين، تسكن حكايا وجع وحياة جديدة تبدأ بغصة وقهر بعد انتهاء "ضحكة البيت".

صورتان أيضًا علقتا على حائط منزل الشهيد "ساري أبو عودة" تلفتان الأنظار وتثيران التساؤل فقد علقتا متلاصقتين كثيرًا، تظنه قريبه.. ابن عمه.. صديقه، ويقطع كل ظنونك حين تلمح اسم الأب واحدًا، فتعلم أن في هذا البيت جرحين ودموعًا لا تنتهي!

امرأة كبيرة في السن تجلس قبالة الصورتين تتأملهما، لفتها نظر "مراسلة الرسالة" الطويل إليهما، "أنا ستهم للشهيدين"، تحكي بعد أن فطنت أننا جئنا نتلمس جرحهم الذي لا يلتئم.

إلى بيت الشهيد في الطابق العلوي اصطحبتنا الجدة، فاعتذرنا لها بأن أتعبناها، لتهمس: "آآآآخ يا خالتي الوجع مش وجع الجسم، قلبي اللي بوجعني من يوم فراق ساري".

في بيت الشهيد "ساري" حزن يلف بالمكان دون أن ينبس أحد ببنت شفة، لعشرين دقيقة كان الصمت حاضرًا، اخترقه حديث الجدة عن "الوصية" التي تركها وقد كانت الجدة سمعتها لتوها عبر هاتف أحد أحفادها.

"تلوع قلبي على فراقه" تحكي الجدة التي لم تغادر الدموع عينيها المرهقتين ولو للحظة أثناء الحديث، فقد فقدت "الضحكة" التي كانت تعلو بوجود "ساري" في بيتها وجده، "يوم ما استشهد ترجيته يضل عندي كنت مشتقاله كتير بس هو صمم يطلع.. طلع وما رجع ساري".

صمت الأم اللافت لم يقطعه إلا سؤالها للجدة عما إذا كان أحد أحفادها قال لها عن آخر كلمات "ساري" أم لا، "نفسي أعرف شو آخر اشي حكاه" تقول الأم وهي تمسح على رأس طفل الشهيد الذي يجلس ملاصقًا لها.

"أم الشهيدين" غدا لقبها، فلا مجال لسؤال "ما شعورك" وهي التي تجرعت كأس الفراق باستشهاد "إسماعيل"، لتمر عليها ثماني سنوات على استشهاده وضحكة "ساري" هي الطبيب والمداوي لها من وجع الفراق، قبل أن تغيب هي الأخرى للأبد!

"كان تالت يوم العيد يوم ما خبروني باستشهاده"، تحكي الأم كاسرة حاجز الصمت الذي كان يسيطر عليها وكأن الذكريات جاءت تباعًا فلم تصمت بعدها، "كل ظروف استشهادهم وحدة نفس المكان ونفس الساعة" تحكي عن فلذتيها.

فالعيد الذي اعتادوا أن يبكوا فيه لذكرى استشهاد "إسماعيل" اقترب كما تحكي الأم، غير أن فقدًا آخر سيلفح عيدهم الآتي، فلن تسمع من "ساري": "كل عام وانت بركة الدار يما".

أخت الشهيد التي تقاسمت مع "ساري" ملامحه، فغدت كتوأمه، كانت هي الأخرى تستجمع ذكرياتها وضحكاته معه فتبدأ بالحديث ثم سرعان ما تعود إلى الصمت: "كنا كتير مشتاقين له أنا وخواتي ونفسنا يضل يضحك معنا.. بس راح".

"عالقدس رايحين شهداء بالملايين" رددها "ساري" كثيرًا مع أبنائه وأبناء إخوته قبل استشهاده بأسبوع واحد، يقول أخوه الأصغر ذو العشر سنوات: "كان كتير يضحكنا ساري ويلاعبنا" ثم أشاح بوجهه إلى الجهة الأخرى ثم غطاه مخفيًا الوجع.

زوجته التي كانت صامتة بكل ما يحمل الصمت من وجع، شاركتنا الحديث ودموع عينيها تسقط على وجه طفلتها التي تحملها ولم تكن تتعدَّ الأربعين يومًا حين حرمت من دلع أبيها لها، تقول الزوجة: "فكرته نايم ساعات.. طلع نايم للأبد".

فإصرار أمه وأخواته أن يقضي يوم إجازته بالجلوس معهم كان سببًا في إخبار "ساري" لهم بأنه سيذهب للنوم ثم سيعود، قبل أن يباغت اجتماعهم وضحكاتهم اتصال من "ساري" لأبيه.

"آه يابا أنا ساري هي حمدان صاحبي استشهد وأنا تصاوبت وهيني حأستشهد زيه.. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله"، كانت آخر كلمات "ساري" لأبيه عبر اتصاله الأخير، أبوه الذي لا يتحدث كثيرًا بعد استشهاد ساري مكتفيًا بقوله: "انكسر ضهري بعده" نافيًا اقتناعه بمقولة "الأب عمود البيت" وهو الذي كان يرى أن ابنه هو عموده وأساسه.

غادرنا بيت "ساري" متيقنين أن أمه ستزيد رقعة صمتها حين ترى كرسيين فارغين على مائدة رمضان الذي اقترب، كما أيقنَّا أن الأم ليست فقط التي تنجب، فأمام دموع جدته التي تنهمر كالمطر تتأكد أن "ما أعز من الولد إلا ولد الولد".

حكاية أخرى في ليل زوجة الشهيد التي ستهدهد أطفالها حين يقولون "بدي بابا"، فتهدهدهم باكية غدهم الذي كانت تتأمل أن يصاغ بالورود قبل أن قبل أن يرسمه الاحتلال بالقهر والعذاب!

أما "آلاء" طفلة الأربعين يومًا، والتي لم تعطها الحياة فرصة الإعجاب بأبيها كأي فتاة، ستنام على هدهدة أمها لها كما قال هاشم الرفاعي باسم كل زوجات الشهداء: "نم لا تشاركني المرارة والمحن.. فلسوف أرضعك الجراح مع اللبن.. لأرى على يديك منى وُهبت لها الحياة.. يا من رأى الدنيا ولكن لم يرَ فيها أباه".

البث المباشر