هذه المدينة لا تعرف الهدوء، تعرف الطوابير فقط، تستقبل الموت ثم تدفن الحزن ثم تحاول في الصباح أن ترسم على وجهها ابتسامة كالموجودة على وجه الشهيد!
كل الفصول تطوف تباعًا في يوم واحد بغزة، يمر عليك فلا يحرمك من فصل الأمل ثم الترقب ثم البكاء ثم الوداع ثم فصل آخر للفقد كما صورة تجمع أم الشهيد محمود القيشاوي وزوجته حين توقف الزمن على ارتعاشة واحدة لهما، وصرخة كذلك قد لا يسمع محمود بعدها شيئًا سوى الدعاء له بالرحمة!
طابور آخر قد يدفعك للاستفسار "من هذا الطفل صاحب الشعر الأشقر؟، من ذاك الطفل صاحب الرأس المنكّس؟، من هؤلاء هنا، جميعهم حول صورة!
صورة فوق تابوت، يودعون صورة، يتحسسون صورة، فلا مجال لقُبلة على رأسٍ لطالما كان مرفوعًا!
"من أنا غير صورة تعكس صورة تودع صورة تحتضن صورة، ثم فجأة تجيبهم الصورة: "صورتي هنا بينكم وأنا هناك في السماء رأيت صورتي الجديدة، أنا الشهيد وسام أبو محروق!".
من وسط غزة حيث الانفجار الذي رحل على إثره سبعة ثوار بعد الحدث الأمني الذي أعده الكيان "الإسرائيلي"، نمرّ أمام طابور جديد ممتد، وجوه شاحبة، وجيوب فارغة، وقلب يدعو الله "يارب راتب كامل"!
ذاك العجوز الذي استهتر بمشاعر الموظف في غزة، الذي قال لهم غدًا الرواتب، ثم تلذذ على مشهدهم في طوابير أمام البنوك، ذاك الذي وعدهم بإزالة العقوبات عن مدينتهم الباهتة، ألا يدرك بأن اسمه " محمود" !
ليس بعيدًا عن إذلال الموظف، هناك يتجمع الذل بأشكاله الكامنة في بوابة سوداء تفصل بين مدينة العتمة وبين مدينة ينادونها بــ "أم الدنيا"!
طوابير أخرى، طوابير لا تنتهي في مدينة الصمود، عجوز يستند على مفصل يده اليمنى، ينفث سيجارته على الحدود الشرقية لغزة، يشارك لأن الجمعة السادسة كانت باسمه، وباسم كل عامل فلسطيني حُرم من حقه العادل في الإنتاج، ينتظر وصول قنبلة غاز إسرائيلية تخطت السياج واقتربت منه حتى يركلها كما يركل عقب السيجارة بإبهامه والسبابة!
جمعة.. اذن غاز، اذن طفلٌ رضيعٌ أمام خيمة العودة، خلعوا ملابسه ووضعوا على فمه كمامة أكسجين، اختناق وصور أخرى من طوابير الجرحى والمبتورة أطرافهم تنتظر السماح للعلاج في الخارج.
انفجار مجددًا.. صوت نحيب.. أشلاء، اياك والصراخ، انه وجهٌ بسّام، إنه شهيد، لا.. لا بل ستة، هنا أشلاءٌ لآخر، وعلى السياج الفاصل الزائل ثلاثة أيضًا قد رحلوا للتو، وتركوا ابتسامتهم في إطار صورة لغزة، ولصباح جديد دون غُمة!