موسى لم يمت! فكيف يموت شهيد في بلادي؟ هنا لا يختفون من الوجود، بل يصبحون وروداً كما قال لي أحدهم مرة: "تستطيع أن تعرف أنهم حولك إن انتشرت رائحة صنوبر قوية مثلاً أو إن تخيلت صورهم تنظر تماماً في عينك".
هو باقٍ، فكما جاء للدنيا حاملاً اسم صديق والده الشهيد، فقد استشهد وأخذ اسمه طفل آخر، ليبقى السؤال هنا: "هل سيتاح لموسى آخر أن يحظى بسلام وحياة وردية!".
حلب وغزة تقاسمتا الوجع على "موسى"، تلك المدينتان اللتان لن يجف جرحهما يومًا، نزفتا قهرًا على عبقريته، على قلب أمه الذي سقط مغشياً عليه!
موسى ارتقى قبل أسبوع برفقة خمسة من رفاقه بعد انفجار جسم مفخخ وسط غزة وضعه الاحتلال أثناء محاولتهم تفكيك لغز استخباري في إطار المعركة المستمرة مع الاحتلال.
سرادق عزائه نصب في حلب كما في غزة، بنفس حجم الحزن تمامًا، فاستذكره المحبون في جزأين مهدمين منسيين من هذا العالم.
"دير البلح ترحب بكم" حين لمحنا اللافتة هذه في طريقنا، كنا نعلم أن ملامح المدينة ستبدو مختلفة، فالحزن على خمسة من خيرة شبابها، يعم شوارعها، كما تلحظه على وجوه أناسها.
حتى السائق لم يتوقف عن الكلام على صفات الشهداء الخمسة، حتى وصولنا إلى بيت الشهيد "موسى سلمان".
خمس صور للشهداء علقت على جدار بيت الشهيد "سلمان" تلمحها بمجرد وصولك، كما وضعت صورة واحدة تجمعهم خمستهم في مدخله، كانت تقف أمامها عجوز باكية تقول: "خيرة شباب دير البلح راحوا.. عاشوا رفقة مع بعض ورحلوا للسما سوا".
في بيت العزاء، حتى جارة الشهيد "محمود" شعرت بأن "قطعة من روحها" قد فارقتها باستشهاده، فقد كانت تتهامس وجارتها بأنه "شاب لا يعوض"، لترد الأخرى: "حتى السما بكتهم يوم استشهادهم".
أم الشهيد التي بدت ذابلة، انهمرت حكاياه كالمطر في ذاكرتها، فثلاثون عامًا من عمر ابنها كانت كافية لأن يسطر في قلبها أرشيف ذاكرة طويلا، لكنها لم تشبع من ضحكاته.
إلى يوم ولادة "محمود" عادت والدته بذاكرتها، حيث "موسى".. هذا الاسم الذي أثار استغراب أقربائهم، قبل أن تخبرهم أن صديق والده "موسى حنفي" قد استشهد فنذر بأن "إذا رزقت بصبي سأسميه على اسمه".
لتدور الأيام وبعد ثلاثين عامًا يحمل ابن صديق الشهيد "موسى" اسمه، حيث ولد يوم الأحد وذلك بعد استشهاده بيوم.
بعد استشهاد "سلمان" بيوم، حضرت أم صديقه المقرب إلى بيت عزائه، لتخبر أمه رسالة من صديقه: "خبري ام الشهيد انها وسام شرف على صدري، وانه أنا ابنها بعد موسى، وسميت طفلي على اسمه"!
حلب التي عاش فيها "سلمان" وفارقها مجبرًا بعد أن اشتدت أحداث الثورة السورية، بكته أيضًا، حيث أصدقائه الذين لم يقطع تواصله معهم حتى بعد أكثر من ثماني سنوات.
"كيف تنسى حلب موسى!" تتساءل أمه وهي تخبرنا أنه بالكاد اقتنع أن يخرج منها، "كل ذكريات حلب موجودة عندي حتى هداياه من سوريا احتفظت فيها".
في زاوية من بيت العزاء كانت تجلس زوجته محتضنة قهرها، صامتة توزع نظرها على صور "موسى" التي تناثرت على جدران البيت، وربما تهدهد طفلتها التي لا تزال جنينًا في أحشائها متساءلة: "من سيدللها!".
أحد أصدقاء الشهيد الغزي الذي شاركه رحلة دراسته تخصص "هندسة كهربائية" في سوريا، تحدث إلى "الرسالة" أنه استقبل التعازي من أهل حلب مستغربًا كمية الحزن الذي خلفه رحيل "سلمان" رغم مرور سنوات طوال على مغادرته حلب.
بعد استشهاد "موسى" أدرك صديقه كيف يصطفى الشهداء، وراح يحكي عن أخلاقه التي أسرت قلب كل من عرفه، حيث "التواضع والصدق والتعاون والإيثار وحسن التعامل" خاتمًا حديثه: "كما الأنبياء.. الله يصطفي الشهداء".