ربما اتفق وشقيقه الأسير أن يكون حفل استقباله حراً من زنازين الاحتلال في قريتهم المهجرة دمرة، أمام بيت قديم بحجارة فلاحية الطراز.
انتظرا اللقاء كثيرًا، غير أن أحلام الفلسطينيين توأد بطريقة سريعة، حيث قتل حلمهما معًا يوم أن ابتلع شقيقه في أسره القهر، حين وصله خبر ارتقائه دون أن يحقق أمنياته.
حديث العودة سيبقى معلقاً في شباك إحدى الزيارات في أروقة سجن ريمون، كما سيظل جرحًا جديدًا يضاف فوق برشه في زنزانته، إلى أن يعود الأخ ليقرأ له الفاتحة عند قبره في غزة.
سيتحرر وهو يعلم أنه لن يكون للتحرير ولا العودة إلى دمرة فرحتها الكبيرة أبدًا، بعد أن غدا شقيقه الذي يحلم باحتضانه محض صور ولا شيء آخر.
جدران بيت الشهيد "سعدي أبو صلاح" من المفترض أن تكون قد اعتادت صور الوجع، لكن فراغاتها تآكلت لكثرة ما شهدت.
فمن هذا البيت اختفت أصوات شاب حالم بعد أن حكم بالسجن عليه سبعة عشر عامًا، ودفنت أحلام آخر جريح، وانتزعت آفاق الحياة لشهيد لم يرد أن يصل عمر العشرين في سجن غزة الكبير.
ما بين شهيد وأسير وجريح تتعدد أشكال الحزن في بيت الأسير المحرر "سعيد أبو صلاح"، لكن المتسبب به واحد كما القهر.
في بيت الشهيد "سعدي" ذي الخمسة عشر عامًا، تدرك كيف أن الشيء الأخير الذي يتناوله أبناؤهن الشهداء يصبح موجعًا بكل طقوس صنعه.
تدرك ذلك حين قالت أم الشهيد "بشار الزبن" ذات مرة والذي استشهد وهي تصنع له كعك العيد الذي طلبه منها: "قمة الوجع في قلبي ليلة العيد.. وقت ماكنت أعمل الكعك لبشار"، والذي لم تصنعه بعد ذلك اليوم!
"خبز الصاج" الذي كان يحبه "سعدي" من يدي أمه، كان آخر ما تناوله يوم استشهاده، تحكي والدته لـ"الرسالة": "حكيت له خذ رغيف صاج اسند طولك فيها حكالي يما بدي أرجع عالسلك بسرعة".
على عجالة كما كل الشهداء في لحظات حياتهم الأخيرة، تناول واحدة من خبز الصاج وعاد إلى الحدود الشمالية التي تقابل الأرض التي كانت أمه تخبز فيها.
طلب الأم بتبديل "سعدي" لملابسه التي امتلأت بدماء المصابين الذين كان يسعفهم، قوبل بالرفض وهي التي لم تعتد عليه أن يرد عليها بـ" لا" إلا حين يتعلق الأمر بالوطن، ليحكي لها: "يما هادي الغبرة اللي عملابسي شرف.. يما هادا الدم شاهد عبطولتنا".
قبل استشهاده بيوم، سمع "سعدي" أمه تكلم شقيقه الأسير "غسان" فخطف منها سماعة الهاتف، وأخبره كم يشتاق إليه وكم يتوق إلى رؤياه.
"اسمه سعدي وهو اسم على مسمى.. هو السعد في حياتي"، تحكي الأم التي لم تكف عن البكاء بغزارة أثناء حديثها عن أول طفل لها.. عن أول من منحها لقب "أم"، عن الصرخة والضحكة الأولى في حياتها.
ذاك الطفل الذي غدت اليوم بعد رحيله تلقب بـ"أم الشهيد"، هو ذاته الذي كان سندها منذ أن كان في السادسة من عمره حين غيبت سلطات الاحتلال والده، وحكمت عليه بالسجن لمدة سبع سنوات.
"منار" شقيقته التي لم تستوعب رحيل "سعدي" بعد، لم تجد ما يشفي غليل قلبها إلا صرخاتها حين وداعه: "وين رايح يا توأم روحي.. ارجع يا سعدي ارجع".
أما شقيقه "زايد" ذو الثلاثة عشر عامًا، كان آخر من سمع صوت "سعدي" حين ارتمى في حضنه وقت قنصه من رصاصة جندي، وقال له: "احكي لإمي تبكيش عليا.. احكيلها تسامحني وترضى عني".
صورة أخيرة أيضًا التقطها شقيق الشهيد الأكبر، بعد أن طلب منه "سعدي" ذلك ومازحه: "صورني عشان رايح أستشهد"، غدت في قلبه وجعًا لن يندمل، كما نظرة أخيرة منه لوالده بعد أن دخل في غيبوبة، ثم صحا ليقول له: "سامحني يابا...سلام"، ستؤلم والده كلما ارتد صداها في أذنيه.
ثائرو الحدود الشمالية في بيت حانون الذين رافقوا "سعدي" منذ بدء مسيرات العودة، اتفقوا مع الشاعر الذي طُلب منه قصيدة لأبطال غزة الذين هبوا لاسترداد حقوقهم، فرد عليهم: "قولوا لأهل غزة هم القصيدة.. قولوا لهم فليكتبوا ونحن من سنقرأ"، تدرك ذلك حين يطبطب أحدهم على كتف والدته بقوله: "كان بطل عالحدود.. كان أسد".
"القلب مليان والعين بتدمع" تحكي أم الشهيد "سعدي" خاتمة حديثها، مؤكدة على أن "سعدي" بات سبب فخر لها رغم كل غيمات القهر التي خيمت على قلبها والتي لن تمطر إلا بلقاء أبدي في السماء.