لم يفهم عقله كيف ضاقت عليه بلاده على اتساع قلبه شوقاً لمقدساتها، وفتحت له الغربة حضنها على مصراعيه لتعوضه شيئاً من رائحة ما بعد الحدود وتقسيمات الاحتلال.
كما لم يأتِ إلى خياله ذات حلم، أن يرى المسجد الأقصى في اسطنبول، حتى لو كان مجسداً، دون أن يرى مسجده الحقيقي في القدس، وأن يتلمس زخرفات المصلى المرواني ولا يعلم كيف هو شكل نافورة المسجد التي تتربع أمامه!
نجحت غربة الشاب "رامي سلمان" في أن تنقل له شعور التواجد في القدس، كما لو كان قد دخل للتو من باب الساهرة ورأى قبة الصخرة تلوح له فرِحةً من بين 6 أشجارٍ من الزيتون وشجرة سروٍ باسقة.
ثلاثون عامًا من عمر "سلمان" قضاها في غزة، تلك المدينة التي تسمح لك فقط بالحلم يقِظًا.. ثلاثون ربيعًا من عمره وهو يتمنى أن تطأ قدماه مدينة القدس يتجول في أزقتها ويصلي في محراب الأقصى.
قبل ثلاثة أشهر سمح له حلم السفر لإكمال التعليم أن يحلق بعيدًا عن مدينة الحصار، فسافر إلى إسطنبول لإكمال الدراسات العليا.
في مدينة القدس وجد "سلمان" نفسه من غير حواجز ولا جنود ولا تصاريح، فبلدية إسطنبول حاكت مباني المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة في مجسمات تروي عطش المحرومين.
بمجرد أن بدأت القبة الذهبية تتراءى أمام ناظري الشاب "سلمان" برفقة أصدقائه، بكى قبل أن يصل إلى قبالتها ويرى لهفة المتواجدين هناك.
على باب المصلى المرواني، جلس "سلمان" متأملًا كيف أن حائطيه الجنوبي والشرقي يتحدان مع المسجد الأقصى المبارك، وكذلك حائطي سور البلدة القديمة في مدينة القدس.
بمجرد أن أعلنت بلدية إسطنبول بافتتاح المدينة المقدسية، توافد الفلسطينيون والأجانب المتواجدين في تركيا من كل الجنسيات إليها.
يحكي "سلمان" لـ "الرسالة": "لم أكن أتخيل أن تتأثر نفسي بمشاهد القدس والمسجد الأقصى هكذا، فقد روت عطش محرومين كثر".
أصر "سلمان" أن يأخذ "الرسالة" جولة إليها في أرجاء مدينة القدس، لأنه يعلم أن هناك من ينتظر أن تلمس قدماه أعتابها.
ففي منطقة السلطان غازي في إسطنبول كانت مدينة القدس على شكل مجسمات تمثل المسجد الأقصى، ومسجد قبة الصخرة المشرفة وسبيل قايتباي والبوائك ومقهى فلسطين.
شعور القهر الذي أصاب الشاب الغزي "رامي" مماثلًا تمامًا لطاقة الارتياح التي امتلأت داخله بها، يقول: "لهفة الغزيين لحظة وصول مكان المجسمات آلمتني ورسمت أمامي لوحة متكاملة من حسرة الغزيين على رؤية القدس والصلاة في المسجد الأقصى".
"كأنه حلم تحقق حقيقة" هكذا استهلت الشابة "إسراء الشريف" حديثها، حين وصفت شعورها بمجرد رؤيتها لمجسم القبة الصخرة المشرفة بحجمه الكبير، وهي التي لم تكن تراه إلا عبر صور فقط.
الشعور الديني وصل "الشريف" كما لو أنها في القدس فعلًا، لا سيما أن مجسم المسجد الأقصى بداخله مسجد فعلي، تحكي: "تصميم المكان يشعرك فعلًا أنك أمام قبة الصخرة الحقيقية وبجانبك باب العامود وعلى يمينك الحرم القبلي وعلى يسارك المصلى المرواني".
كان أكثر ما لفت انتباه "الشريف" ردود فعل الأطفال وهم ينظرون إلى صور فلسطين التي علقت على جدار في المكان.
فطفل صغير لا يتعدى عمره أربع سنوات أدهش "إسراء" بتأثره الشديد وهو يقف أمام شاشة كبيرة تعرض مقاطع من مسيرات العودة وأطفال غزة وهم يقصون السلك ويقاومون ببسالة.
كما أثار استغرابها بكاء الشباب الغزيين الذين انهمرت دموعهم بمجرد وقوفهم أمام قبة الصخرة المشرفة، وحين سألتهم عن سبب بكائهم أجابوها: "هذا شعورنا حين رأينا القدس مجسمات، فكيف لو زرنا القدس وتجولنا في أزقتها وقبلنا ترابها!".
منذ وعد بلفور وحتى قرار ترامب، عرضت صور بانوراما محطات القضية الفلسطينية إضافة إلى ثلاث غرف مثلت اللجوء الفلسطيني ومعاناة الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
الفلكلور الشعبي الفلسطيني كان حاضرًا في مدينة القدس في إسطنبول، حيث الأثواب الفلسطينية والأدوات التراثية وصور الأجداد قبل النكبة، عدا عن صور متناثرة على الجدران تروي معاناة الفلسطينيين