عقيدة الجيش في (إسرائيل) ليست (إلياذة) واستراتيجيته حرارتها فوق الصفر بكثير فبالإمكان التعديل والتغيير تكيّفاً مع الواقع السياسي والأمني بالدرجة الأولى في طليعة مرحلة يظهر فيها أصدقاء ويعترف هو ذاته بتطور خصوم قدامى .
قبل أيام أعلن جيش الاحتلال أنه أجرى تعديلات على وثيقة استراتيجيته التي رسمها (غادي آيزنكوت) رئيس الأركان عام (2015) , لقد مرّ وقت طويل منذ وضع (بن غوريون) أول رئيس وزراء للاحتلال مبادي عمل جيش الدولة الناشئة عام (1950) .
ما وضعه (بن غوريون) يومها ركّز على "الردع-الإنذار-تحسينا لذراع البرّي-حماية الجبهة الداخلية" وبقيت روح (بن غوريون) في استراتيجية الجيش حتى شبّ (آيزنكوت) عن الطوق ورسم استراتيجية مطوّرة عام (2015 ) .
كانت وثيقة (آيزنكوت) عام 2015 الثانية في تاريخ الكيان ولعل هزائم (إسرائيل) وانخفاض قوة الردع وتضرر معنويات الجنود بعيد حروب (2006) و(2008) دفعته لوضع استراتيجية اعتمدت محاور أهمها (تحسين قدرة سلاح المشاة-الاهتمام بحرب السايبر-إيران وسوريا ليست التهديد الأول-الانتصار بأي حرب مع عدم السعي لها" .
ومنذ عام (2015) لم يفصح (آيزنكوت) كثيراً عن استراتيجيته فالرجل الذي تحلّى بكثير من التؤدة والحكمة في ادارة مؤسسة الاحتلال العسكرية لم يظهر إلا نادراً كعادته على الإعلام لكننا قرأنا في زمنه زيادة في مناورات مكثفة ونوعية وتكثيف جهد استخباري غير مسبوق .
اليوم و(إسرائيل) تحتفي بالإعلان عن أصدقاء قدامى وجدد من ما يسمى محور الاعتدال تحث الخطى نحو علاقات دبلوماسية واقتصادية علنية مع دول عربية أهمها السعودية لذا ليس من الغريب أن نسمع تعديلات استراتيجية جديدة على منظومة جيشها في ظل واقع سياسي وأمني يميل ثلاثة أرباعه لصالحها .
ما كشفه الجيش من وثيقته المعدّلة عبر وسائل إعلامه يركّز على علاقة الجيش الإسرائيلي بالجمهور في "إسرائيل"، وعلاقته ببعض الدول العربية، ومجالات التجنيد واستدعاء الاحتياط.
ويقسّم الاحتلال الحلبات إلى (حلبات صراع، وحلبات تعاون) وفق معايير (التوتر، وتقارب المصالح، والتعاون والتنسيق الأمني مع الجيران من الدول العربية) متحرّكاً وفق خيارات استراتيجية هي (القتال أوالحسم العسكري، مرورا بالتأثير الأمني، منتهياً لمرحلة التنسيق الأمني الإقليمي).
وبالحديث عن المفصل الأول وهو علاقة الجيش بالجمهور فإن أخطاء السنوات الماضية (2006-2014) تضررت فيها صورة الجندي الإسرائيلي حين وقع قتيلاً وجريحاً وأسيراً على يد فصائل المقاومة فيما يضع المستوطن منذ نشأة (إسرائيل) كامل ثقته في الجيش ويعتبره جدار الصدّ الأخير .
وبدا واضحاً أن الاحتلال أجرى مناورات مكثّفة ومشتركة وتاريخية منفرداً ومع جيوش أخرى تحاكي حرب موسعة وأحياناً احتلال مدن وبلدات على غرار جغرافيا غزة وجنوب لبنان وحرب الأنفاق ساعياً لعدم تكرار أخطاء الماضي وأهمها ما ورد في تقرير (يوسف شابيرا) مراقب عام الدولة عن اخفاقات الجيش وخاصة في ملف الأنفاق بحرب (2014) .
التقرير الاستراتيجي لعام (2017) صنّف الأخطار من حول (إسرائيل) فجاء حزب الله في المرتبة الأولى تليه إيران وسوريا وحماس فيما بقيت غزة الساحة الأقرب للانفجار وعليه شاهدنا تماس وتوتر وقصف على جولات منذ بدء مسيرة العودة أحسنت فيها المقاومة مؤخراً تعديل قواعد الاشتباك .
ورغم أننا رجحنا قبل أسابيع أن يرتدي (نتنياهو) البدلة الزرقاء بعد إحالة ملفات التهم الموجهة إليه إلى قيادة الشرطة إلا أنه لازال في ظل غياب الكبار عن مشهد السياسة الإسرائيلية الأوفر حظاً من بين منافسيه وهو يطوف العالم متحدثاً عن ملف إيران النووي.
أما الحديث عن حلبات الصراع فأحوالها متغيّرة لذا يجري الجيش تعديلات ميدانية وينتهج سلوك عسكري اعتماداً على زخم استخباري وهو يقسمها إلى (حلبة شيعية متطرفة، وحلبات سنية معتدلة، والحلبة الفلسطينية والحلبة الجهادية السلفية).
ورغم أن الخشية أكبر من جبهة الشمال نصف الصامتة والمقصود حزب الله إلا أن غزة الأقرب دائماً للانفجار جاءت مؤخراً خارج فضاء كونه ونطاق توقعه حين أشعلت ساحة مسيرة العودة وكسرت حاجز الخوف بالتماس المباشر بين جيشه وآلاف المدنيين وتقدمت خطوة اكثر حين عالجت قواعد الاشتباك قبل أيام ولم تترك يده طليقة تطلق الرصاصة الأولى والأخيرة .
إطلاق رشقات من قذائف (المورتر) على بلدات غلاف غزة هو مصدر النيران الوحيد الذي أزعج جيش الاحتلال وأضرّ بردعه رغم امتلاك جبهات تهديد أخرى امكانات عسكرية أكبر لكن غزة التي يكمن قوتها في ضعفها أصابت جزئياً خاصرة (إسرائيل) الطريّة (الجبهة الداخلية) حتى خرج سكان مستوطنات الغلاف غاضبين من جيشهم .
الجانب الآخر بالغ الأهمية في ما نشر من تعديلات وثيقة الجيش هو التعامل بشكل منفصل في غزة عن الضفة وهو امر من المفترض أن يشغل الأضواء الحمراء أمام قيادة السلطة الفلسطينية والفصائل الفلسطينية .
وعلى نهج تفعيل عدة قواعد أمنية وعسكرية لم يستخدم الجيش الإسرائيلي نهج قصّ العشب أو الضربة الاستباقية وحدها بل هاجم مبكراً منذ سنوات ومؤخراً بدعم دولي أهدافاً إيرانية وسورية خشية تطور خط تماس مزعج له مستقبلاً مركزّا في الوقت ذاته على تدمير مواد قتالية تنقل عادة من سوريا لحزب الله .
الاحتلال الذي بدا منزعجاً من الوجود الإيراني وبقاء القوة السورية في حوض اليرموك والتنف والجولان يخشى التماس الحقيقي قريباً لذا كثّف من ضرباته الجوية واستدعى الأصدقاء مؤخراً حين قصفت طائرات الأمريكان والفرنسيين والانجليز سوياً أهدافاً سورية .
الخطير أيضاً أن تمتين العلاقات الإسرائيلية مع دول عربية من دول طوق فلسطين والإقليم العربي ينحدر بالأمن القومي العربي إلى الهاوية وقد أفصحت التعديلات عن علاقات بين الجيش الإسرائيلي ودول عربية ما يدلل أن العلاقة حالياً استخبارية خالصة .