في أحد الأزقة في مخيم جباليا، ستقودك قدماك إلى بيت عزاء نصب في الزقاق أسفل منزل آل حمادة المتواضع، وعلقت في زواياه صور مختلفة لمحمد حمادة، القسامي الذي رحل بعد أن تماثل للشفاء.
ثم ستقابلك طفلته الوحيدة " ريتاج" بوجهها الرقيق كما الياسمينة وبابتسامتها الدافئة ولسانها الطليق، ريتاج انتشرت صورها وهي تقبل والدها على فراش المرض عبر شبكات التواصل، بعد أن أصرت على الاحتفال بعيد ميلادها السادس إلى جانب والدها في المستشفى، فأخذت كعكتها الملونة ووضعتها في حضنه ليحتفلا معا دون أن يكون في حسبان أي منهما أن ذلك هو الاحتفال الأخير لعيد ميلادها معه.
بمبسمها الرقيق، ستسحبك ريتاج إلى باب البيت وتنادي من على الباب: " ماما، ستو " ثم تسمح لك بالدخول لاستشعار الحزن المخيم على المكان.
كل الوجوه في بيت العزاء تعلوها ملامح الصدمة، صدمة فقد محمد الذي كان يجلس في المستشفى قبل ساعات، بينما يطمئنهم الطبيب على استقرار حالته وبأنه سيغادر المستشفى بعد أيام، فكيف آثر الرحيل فجأة؟!
زوجته تستقبل المعزين، وتمسك بيد ابنتها ريتاج التي تلهو مع أقرانها بعضا من الوقت ثم تعود إلى حضنها ركضا حينما تلمح دمعة أمها الساقطة لتمسحها فورا قبل أن تبادلها البكاء.
إصابة بالغة
لم تكن هذه المرة الأولى التي يقسو فيها الموت على قلب أم محمد فقد رحل ابنها البكر صبيا يافعا بعد معاناة أربع سنوات مع المرض، وها هي تفقد محمد الذي كانت تجالسه وتسامره قبل نصف ساعة من رحيله، فكيف هاتفوها ببساطة بعد خروجها من المستشفى بنصف ساعة، ليخبروها أنه قد استشهد؟!
تقول فيه: انتمى إلى صفوف المقاومة منذ تفتحت عيناه على الدنيا، تربى بين المساجد، حتى أصبح مرابطا وأنا لا أدري، كان ينام في الطابق السفلي من البيت، فيتسلل آخر الليل ونحن نيام ويذهب إلى رباطه على الثغور، وأنا لم أكن أعلم، وحينما علمت استودعته رب العالمين، فهذا ما أراد، ولن يمنعه خوفي عليه.
وتكمل: كان من الطبيعي أن أنتظر يوم استشهاده، وفي يوم اصابته في أحداث الرابع عشر من مايو، لم استغرب تلك المكالمة التي وصلتني من إحدى الممرضات في المستشفى لتقول لي أن ابني أصيب، ورغم أنها طمأنتني إلا أنني ذهبت مهرولة بصحبة والده وزوجته إلى هناك، فوجدنا ابني مصابا إصابة بالغة في قدمه، ويهذي من الحمى، يفتح عينيه لثانية ثم يغمضها، نحاول أن نكلمه فلا يجيب، يعرفنا ولا يعرفنا.
وبقي يهلوس بكلمات غير مفهومة تحت تأثير الحمى، ليومين كاملين حتى بدأت جروح قدمه بالالتئام، وبدأ بالتحسن تدريجيا.
وتكمل وشبح ابتسامة على وجهها: كنت أجلس بجانبه وأمسك بيده، وأهدئ من ألمه، كان يشد على يدي، ويطلب مني البقاء إلى جانبه!
وبينما تقلب أمه الذكريات تتساءل متأملة: كم مرة طلب الشهادة؟!
كان يذهب إلى الرباط وهو ابن الرابعة عشر، كان حزينا على رقدته بعد اصابته وعدم قدرته على الذهاب للمشاركة في مسيرات العودة في الجمع التالية، فقد أصيب منذ صباح يوم الرابع عشر، ولم يكمل حتى يومه، لذلك كان ندما آسفا على رقدته، طامعا في الشهادة، وكأن الله أعطاه إياها في اللحظة الأخيرة دون أن تكون في حسبان أحد!
يوم الرحيل
أما زوجته فقد ارتبطت الكلمات على لسانها، تتلعثم بالحروف ولا تدري من أين تبدأ، حتى انطلقت في حديثها عن يوم الإصابة، لافتة الى أنها كانت تذهب يوميا إلى المستشفى وتظل إلى جانب زوجها طوال اليوم قائلة:" كنت أمازحه معبرة عن شوقي لوجوده بيننا، متى ستعود إلى البيت؟! أخاف البقاء لوحدي، فيقول لي هانت، هانت!
ولم تكن تعلم أم ريتاج ما الذي تعنيه كلمة" هانت" تلك التي تعني لها فقط قرب المسافات البعيدة، ولم تكن تعرف أنها تعني فقدا إلى الأبد في لحظة لم تحسب لها حسابا.
تقول واصفة فاجعة المشهد الأخير: بعد أن تناولنا طعام الإفطار معا في المستشفى، نزلنا إلى حديقة المستشفى للترفيه عن محمد الذي بدأ يشعر بالضجر والاختناق بسبب الرقاد لساعات طويلة، وبالفعل، جلسنا قليلا، وكان هادئا مبتسما، مرتاحا، ثم طلبت منه الصعود ليريح قدمه، وصعدنا فورا.
تضيف عبر دموع تكتم أنفاسها:" حينما وصلنا إلى سريره في الغرفة، وساعدته على الاستلقاء مرة أخرى، قالي لي فجأة، قدمي يتدفق منها الدم!!! تملكني الرعب وأنا أنظر إليها، وعجزت عن التعبير، مشهد القدم كان مخيفا، نافورة دماء انفجرت من مكان ما في قدمه، وتحول لون وجه محمد خلال ثوان إلى الأصفر، ثم يبهت للأبيض، فبدأت أصرخ وأركض في ممرات المستشفى باحثة عن الأطباء والممرضين، الذي جاؤوا ونقلوه إلى غرفة العمليات في الطابق الأسفل فورا، وأنا أركض صارخة، ولكن رغم ذهولي من المشهد، لم أكن أتوقع هذه النهاية السريعة مطلقا.
فمن بين الدموع والملامح التي ما زالت تعلوها صدمة الفقد تكمل زوجته: رحل فجأة، خلال نصف ساعة، ورغم نقل أربعة عشر وحدة دم إلى جسده لكنها لم تشفع له ليبقى، وكل محاولات الأطباء باءت بالفشل، وكل ذلك بفعل شريان في القدم، يصل إلى القلب انفجر في قدمه فجأة، فسحب كل دماء الجسد إلى الخارج، ولم تفلح أي محاولة على إيقاف الموت، ليرتقي محمد شهيدا، كما كان يحلم.