"يمه يا حبيبتي، يا الله يمه يا حبيبتي"، كانت صرخاته ترتد في جوانب المستشفى، وهو يحاول أن يحكي للمحيطين به الحكاية، ويسألهم: "كيف سأخبر أخوتي، من سيقول لهم؟"، وبين كل صرخة وصرخة، لحظة تأمل للصدفة الغريبة التي جعلته يذهب تلك اللحظة لانتشال الجثمان مع رفاقه، وهو يقول: "شهيدة مجهولة الهوية"، دون أن يعلم أنها أمه.
كان مساء مختلفا ذلك الذي عاشه المسعف عبد العزيز البرديني، المتطوع في جمعية الهلال الأحمر منذ بداية الحرب، حينما أتته ورفاقه رسالة تطلب منهم التوجه على وجه السرعة إلى مكان استهداف في مخيم البريج وسط قطاع غزة فتوجهوا مسرعين، وفي ثلاث دقائق وصلوا إلى المكان المستهدف.
يقول: "وصلت فوجدت ثلاثة أشخاص على الأرض، غطى المارة وجه المرأة، واقتربت منها وفحصت نبضها فوجدتها قد استشهدت، فركضت نحو الحالتين وكان بينهما طفل لا زال قلبه ينبض، وانشغلت بإسعافه وبنقله فورا".
حمل الزملاء جثمان الشهيدة الأم، ولم يكشف عن وجهها أحد احتراما لحرمة الشهيدة، وركبوا معها، وكان هو تحديدا جالسا إلى جانب جثمانها في سيارة الإسعاف التي وصلت إلى المستشفى في أربع دقائق أخرى من السرعة.
وحينما نزل الجميع حملوا جسد الطفل ذو العشرة أعوام، الذي لا زال حيا، وانشغلوا بإدخاله إلى العناية لعلهم ينجحون في إنقاذ حياته، وكان الزمن يسابقهم نحو فعل شيء لأجل إنقاذ أحدهم، كان هدفي الأول أن يصل الطفل إلى المستشفى بأي طريقة، ولم أفكر أو أهتم طوال الطريق في سيارة الإسعاف سوى ببقائه على قيد الحياة.
يقول البرديني: "حينما خرجت من العناية شاركت زملائي في حمل الشهيدة نحو العناية المركزة، وأخبرت الطبيب بأن هذه المرأة مجهولة الهوية، فلم يكن هناك أحد من أقاربها معها، يبدو أنها كانت عابرة سبيل في الطريق، أثناء القصف، فأصيبت واستشهدت".
يبكي المسعف الشاب، مع كل كلمة، وهو يتآكل حسرة على فراق أمه، وكلنا رآه في تلك اللحظة التي كشف الأطباء فيها عن وجه الشهيدة فتفاجأ أنها أمه، وفقد سيطرته على الوقوف وبدأ يصرخ:" هذه أمي، هذه أمي".
لكن ما قبل الصرخات، وحينما كشف عن وجه الأم في غرفة العناية، لم يصدق عبد العزيز عينيه، كان يبحث عن أحد حوله حتى يؤكد له ما رآى:" كنت أحاول تكذيب نفسي، بدأت أشك، هل هي هذه أمي، كنت أريد أن يأتي أحد آخر ليتعرف عليها".
كان يتمنى أن يأتي أحدهم ويدخل إلى غرفة العناية بينما يحدق المسعف بوجه أمه، ليقول له إنها ليست هي، وأن هذه الشهيدة تخص آخرين.. وحينما اقترب زملائي لحملها، اقتربت منها، تأكدت من ملامحها، من رائحتها، فانفجرت ، إنها أمي".
جلس عبد العزيز بجانب جثمان أمه ذلك المساء، يعيد حسابات الزمن، الذي حولته طائرة الاحتلال إلى مأساة، ويتأمل كيف وصل الموت إلى عائلتهم التي تقطن مخيم البريج، وكيف كانت القذيفة قريبة من منزلهم، ورغم ذلك لم يتخيل أن تكون تلك المرأة أمه التي تركها خلفه وذهب إلى العمل في حمل الشهداء، لتحملها يداه، كشهيدة مغطاة الوجه، مجهولة الهوية، ثم يقول: "تلك الشهيدة مجهولة الهوية، كانت أمي".