لم يعد الحديث خفياً حول صحة الرئيس أبو مازن وأهليته للحكم خاصة بعد اختفائه عن المشهد الإعلامي والسياسي، بل وتكرار تعرضه لنوبات مرضية تلزمه المكث في المستشفى لأيام متواصلة. كما أن الفيديو الذي انتشر مؤخرا ويظهر فيه الرئيس متعباً جدا لمجرد سيره بضعة خطوات وطريقة جلوسه التي تعكس انهيار قواه البدنية، مع ظهور آثار الأدوية على مظهره الخارجي.
كل ذلك وغيره يدعو للبحث في مآلات الرئاسيات الثلاث التي يشغلها الرئيس أبو مازن حتى الآن وهي: رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية ورئاسة السلطة، ورئاسة حركة فتح. وهنا لابد من استحضار أن تلك الرئاسيات قد ورثها أبو مازن عن خلفه الراحل ياسر عرفات، وأنها جاءت في سياقات سياسية وإقليمية لم تعد موجودة الآن، ولآن المقال يهتم باستحضار المشهد الرئاسي الفلسطيني بعد ستين يوماً من خلو تلك الرئاسيات لأي سبب من الأسباب سواء كانت تدهور دراماتيكي على صحة الرئيس أو رحيله لانقضاء الأجل أو حتى استقالته المفاجئة.
رئاسة حركة فتح: تعتبر من أسهل الملفات باعتبار وجود نائب لرئيس الحركة من السهل أن يتولى منصب الرئيس مباشرة إلى أن يتم اجراء انتخاب رئيس جديد ونائب له بحسب اللوائح والأنظمة للحركة، لكن ذلك لن يمضي دون الحديث عن عودة ما يسميهم الرئيس عباس بالمتجنحين بقيادة رئيس التيار الإصلاحي في الحركة النائب محمد دحلان، وحدوث تدافع تنظيمي تقليدي داخل الحركة تمهيدا لانتخاب رئيس جديد لها.
رئاسة منظمة التحرير: ستكون محل نقاش حقيقي داخل المجموع الفلسطيني باعتبار أن اتفاق المصالحة الفلسطينية الذي وقعت عليه كل الفصائل الفلسطينية في مايو 2011 وأعيد تجديده في أكتوبر 2017 في القاهرة يؤكد على الحاجة لإعادة بنائها بدءا من انتخاب مجلس وطني جديد وصولاً إلى انتخاب رئيس للجنة التنفيذية. غير أن منصب أمين السر ربما تستخدمه حركة فتح -المتفردة والمهيمنة على اللجنة التنفيذية الحالية-وربما يتم الحديث من بعض الفصائل عن تولي رئيس المجلس الوطني لهذا المنصب تمهيداً لانتخاب الرئيس الجديد. لكن أحداً لا يستطيع أن يتجاهل أن تشكيلة المجلس الوطني الحالية وكذلك المجلس المركزي لا تحظى على الحد الأدنى من التوافق الوطني باعتبار أن آخر جلسة تمت في رام الله قد قاطعتها فصائل مؤسسة في المنظمة كالجبهة الشعبية وكذلك عارضها قوى المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس، الأمر الذي سيجعل من شرعية أي انتاج لرئيس المنظمة هو محل نقاش في الشرعية والتمثيل الوطني.
رئاسة السلطة الفلسطينية: هي الأكثر جدلاً من بين الرئاسيات الثلاث فمن المتوقع أن تعمل حركة فتح على تجاوز النظام الأساسي _الدستور_ الفلسطيني الذي ينص على أن يتولى الرئاسة رئيس المجلس التشريعي مدة ستين يوماً إلى حين إجراء انتخابات رئاسية تفرز رئيسا جديداً، وهو ما حدث عام 2004 بعد رحيل الرئيس ابو عمار؛ حيث تولى المنصب رئيس التشريعي في حينه السيد "روحي فتوح" وقد أجريت انتخابات رئاسية جاءت بالرئيس ابو مازن.
ولعل حركة فتح ستقوم بأحد خيارين؛ الأول إسناد المنصب إلى رئيس المحكمة الدستورية الأمر الذي سترفضه الفصائل الفلسطينية باعتباره يمثل مخالفة صريحة للنظام الأساسي الفلسطيني من جهة ومن جهة أخرى رفضها المبدئي لتشكيل المحكمة الدستورية من قبل الرئيس عباس بشكل مخالف للنظام السياسي الفلسطيني. والخيار الثاني أن تبتدع فكرة إسناد المنصب إلى رئيس المجلس الوطني متذرعين بأن منظمة التحرير هي أعلى من السلطة وأن منصب رئيس السلطة هو أحد إفرازات المنظمة؛ وهو خيار يمثل انقلاباً مباشراً على كل النظام السياسي الفلسطيني السائد منذ ربع قرن. كما أنه خيار لا يمكن أن تقبل به أي من الفصائل الفلسطينية باعتباره يشطب الديمقراطية ويعزز الفوضى السياسية، عوضاً عن أن كبرى الفصائل الفلسطينية ترفض جلسة المجلس التي عقدت في رام الله يوم 30 إبريل/نيسان من العام الجاري وكافة إفرازاتها، بل وتعتبرها جلسة تكرس الانفصال الوطني وتحرق الأخضر واليابس في الشراكة الوطنية.
وفي المقابل ستقوم الفصائل الفلسطينية وفي مقدمتها حركة حماس بإعلان رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني رئيساً للسلطة كما ينص النظام الأساسي الفلسطيني، وفي حال رفض د. عزيز دويك -وهو الرئيس الحالي للمجلس-تولي المنصب سيتولاه نائبه الأول د. أحمد بحر. وأياً كانت السيناريوهات فإن الحالة السياسية في الإقليم وتجاوز اتفاقات المصالحة الفلسطينية من قبل السلطة وحركة فتح، وفي ظل ضغوط الإدارة الأمريكية لإنجاح مشروعها في المنطقة "صفقة القرن" فلعلنا أمام تشكّل نظامين أحدهما في غزة والثاني في الضفة، لكن كل ذلك يبقى تغليب كل المكونات للمصلحة الوطنية بتطبيق المصالحة الفلسطينية بكافة ملفاتها من أجل تحقيق الشراكة السياسية واجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني، تمهيداً لاستعادة المشروع الوطني الفلسطيني لقوته بالتحرير وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.