لم يكونوا يومًا أطفالًا عاديين! ففي غزة تشعر أن فيهم شيئًا من نفحات الجنان، وأن بداخلهم شيئًا من ترانيم أغنية المآذن الباكية.
ستسمع كثيرًا هنا، أن الشهيد يُعرف منذ صغره، يقول لك منذ نعومة أظفاره أنه سيكبر ليصبح شهيداً، ففي بلادنا يمكن أن يتمنى الطفل أن يصبح شابًا كي يكون مقاومًا لا طبيبًا ولا رجل فضاء!
ياسر آخر!
ومرات كثيرة أيضًا تتساءل: "هل لبعض الأسماء في غزة نصيب من الرحيل أو الكرامة كما الوجع"، وهل كُتِب على آل "ياسر" الصبرَ أبدًا كي يكون موعدهم الجنة؟!
"ياسر" كان الاسم الذي هز أرجاء غزة بل العالم قهرًا حين استفزت عدسة كاميرته جنود الاحتلال فأوجعوا قلوب عائلة مرتجى!
كما نُبِش الألم أيضًا حين نشرت صورة طفل بريء وقد خرجت "كل أحشاء رأسه" فعادت غزة إلى فاجعتها بياسر حين عُرف أنه يحمل ذات الاسم !
خيَّال فارس وسبَّاح ماهر
الطفل "ياسر أبو النجا".. يعرف كيف يركب الخيل كفارس، تعلَّم الرماية كمحترف، وألفه بحر غزة كسبَّاحٍ ماهر، لم يستمع في صغره لقصة ليلى والذئب أو روبن هود، بل قصص شباب المقاومة وصورهم هي التي نشأت معه في غرفة نومه.
هل سمع الجندي ياسر حين همس لأمه ذات ليلة: "أنا بدي أطلع خيَّال وسبَّاح ماهر"؟ أم هل سمعه وهو يبوح لأخته بأمنيته أن يكون "الجعبري" الثاني في غزة ويخرج الأسرى من زنازين القهر؟
هل رأى له فيديو وهو يمتطي صهوة الخيل، وخشي من ثمار تلك العزة التي ملأت عيني "ياسر" بعد أن قيل له يومًا إنه "فارس مقدام" فأفرغ حقده برصاصات في رأسه؟
"ثوب العودة"
في بيت العزاء.. جميعهن كنَّ يتوشحن بالأسود، صغيرة كانت أم كبيرة، عدا عن عجوز تجلس في إحدى جنباته مرتدية ثوبها الفلاحي.
السرو والغزال المطرز على ثوبها كان كرميديًا بلون طوب منازل قريتها "القبيبة"، كما نسج أيضًا بلون تراب أرض.
هي جدته.. تجلس قبالة ثلاث صور، كانت صورة "ياسر" إحداهن، والأخريتان لعميه الشهيدين "ياسر وهيثم".
كانت تضحك تارة ثم تبكي وتعود لتبتسم.. فقد باحت لنا بأنها تتخيل لقاء "ياسر" بعميه الشهيدين، فتبتسم حين يمر شكل اللقاء على تلابيب ذاكرتها.
ثم تبكي كثيرًا لأنها تتخيل أيامها دون حفيدها الشقي "ياسر"! دون أسئلته التي لا تنتهي عن أزقة قرية القبيبة وحواكيرها.
- ستي ايش أول اشي بدك تعمليه لما نرجع عالقبيبة؟ ستي ايش لون التوب القبيبي اللي ناوية ترجعي فيه عالبلاد؟ ستي لما نرجع حافظة طريق داركم اللي تركتوها وطلعتوا منها!
ثم ينهي مشاكساته وفضوله بضحكة: "يا خوفي يا ستي تكوني ناسية ونتوه لما نرجع عهالبلاد" فترد بحسم مقطبة جبينها: "مش ستك القبيباوية اللي تنسى طريق قريتها".
تفاصيل العودة كلها كان قد تحدث عنها "ياسر" مع جدته.. تلك التي تنتظر فرحة العودة إلا أن قلبها كان يُغَص حين تتذكر أن ابنيها قد رحلا، وأن الفرحة في هذه البلاد دومًا تكون منقوصة!
كانت جدته تود لو أنها تمسك بيد "ياسر" ويدخلا "القبيبة" ضاحكيْن، تحكي لـ "الرسالة": "ودعت اتنين من اولادي وزاد قهري ووجعي لما ودعت مهجة قلبي ياسر وانطفت كل الفرحة بقلبي".
لطالما كان يطبطب "ياسر" على كتفيها بأن العودة ستمنحها قبلة وداع على جبين "عمه باسل" المحتجزة جثته في مقابر الأرقام عند الاحتلال، وأنها ستدفنه في حاكورة بيتها في "القبيبة" كي تبقى رائحته حولها بعد أن حرمت منه سنوات طوال.
رزنامة موجعة
ستتزاحم التواريخ والسنوات في خلد جدته، ففي السابع عشر من أكتوبر عام 2002 ودعت فلذة كبدها "هيثم" شهيدًا، وفي العدوان الأخير على غزة خرج ابنها "باسل" من البيت ولم يعد!
وفي التاسع عشر من سبتمبر قبل أحد عشر عامًا، أتى "ياسر" فأنساها بضعًا من وجعها على أبنائها، قبل أن يعود إلى حضن الأرض شهيدًا في التاسع والعشرين من مايو هذا العام!
ستمتلئ الرزنامة في ذاكرتها، اليوم ولد باسل.. اليوم رحل هيثم.. بتاريخ اليوم روي عطشنا بميلاد "ياسر".. يومان وتأتي ذكرى قصف بيتنا في العدوان الأول.. كمثل اليوم بدأت مطاردة ابني أمجد.. ولن تتوقف!
تسع وردات ذابلة!
تسع وردات ذابلة تناثرن في أرجاء بيت العزاء، إحداهن تمسك صورة لياسر، وهذه تبكي وتبكي، وواحدة كانت صامتة لا تنبس ببنت شفة، وأخرى انفجر بالون ذاكرتها فسالت حكاياته في قلبها وراحت تحكي لنا دون توقف.
"إيناس" واحدة من اللواتي شعرن بأن الاحتلال أصاب عظم ظهرها فبات "مكسورًا" بعد رحيل السند، تقول: "شو بدي أحكي عن ياسر وهو إجى كطوق نجاة الي ولخواتي التسعة".
كان "ياسر" كشاطئ الأمان الذي ترسو إليه أخواته التسع، فلم يخشين عثرات الحياة كثيرًا بعد ميلاده، "من أول ميلاده وياسر مالي علينا البيت بضحكاته وشقاوته" تحكي "إيناس" معتذرة عن إكمال الحديث لأن غصة القلب قد أعيتها.
"إيناس" التي لطالما مازحها "ياسر" أن كيف لي أن أزوركن جميعًا في العيد، وكيف لي أن يوزع أيام إجازاتي عليكن وأنتن تسعة!
كزيتونة عتيقة
خشينا الاقتراب من أمه، فكيف بقلبها وقد ودعته قبل ساعات؟!، وماذا سنسأل أمًا قد رأت كل أحشاء رأس ابنها ودمه ينزف كشلال لم يتوقف!
هي "سماح أبو النجا" التي كانت في يوم من أيام هذه البلاد النازفة "زوجة شهيد"، وأيضًا عاشت مع "أبي ياسر" كـ"زوجة مطارد"، فتنقلت مع زوجها وقصف بيتها مرارًا، قبل أن تصبح اليوم "أم الشهيد".
يوم الجمعة الماضي، كانت "سماح" متعبة، غير أن ضحكات "ياسر" معها وسؤاله ما إذا كانت ستعود إلى مدينتها "يافا" أم ستذهب معهم إلى قريتهم "القبيبة" أنعشها قليلًا قبل أن يستفزها بقوله: "بدي أروح عالمسيرات".
"قرصة قلبها" والضيق الذي سكن نفسها منذ صباح ذلك اليوم جعلها تمنع "ياسر" من الذهاب إلى حدود خانيونس، فطلب منها إحضار الغداء له فلبَّت طلبه رغم إرهاقها، إلا أن صوت أقدامه على السلالم أخرجها من المطبخ راكضة!
عشر درجات في مدخل بيت الشهيد "ياسر" كانت شاهدة على انغراس "حلم العودة" كزيتونة عتيقة في قلبه!
حافي القدمين خرج "ياسر" لأنه فطن إلى أن أخذ حذائه سينبه أمه أنه يريد الخروج، فصعد السلم وهرب من سطح المنزل.
نادت كثيرًا، غير أنه وصل إلى الباصات الذاهبة إلى الحدود ركضًا، مكملة حديثها: "وقت العصر صار قلبي فيه غصة كبيرة فضليت أبكي (..) حسيت قلبي انقبض على ياسر".
هروبًا من التفكير والوساوس، مسكت الأم هاتفها تتصفح الفيس بوك، كي تخرج من دوامة التفكير التي أصابتها.
"شهيد مجهول الهوية" قرأت على إحدى وكالات الأنباء، فتمتمت: "الله يكون بعون إمه"، قبل أن تظهر على متصفحها صورة الشهيد ذاك، بدم نازف ورأس فارغ تمامًا وجسد نحيل، "عرفته وهو ممدد عند التلاجات من بنطلونه ورجليه".
لم تطلب الأم شيئًا من مؤسسات حقوقية، ولا مؤتمرات دولية، فقط كل ما قالته: "بأي ذنب تقتل براءة ياسر.. وماذا لو كان الطفل فارغ الرأس ليس ياسر.. بل طفل فيما تسمى إسرائيل أو آخر في مكان غير غزة!".
صورة "ياسر" وهو ممدد في ثلاجة الموتى، وبجانبه "أحشاء رأسه"، أفجعت الأم، وأبكاها وهي تحكي: "كيف أنا بدي أنسى شكل ابني وراسه".
حكت الأم بعد أن حاولت خرق جدار الصمت عن كل حكايا "ياسر"، عن كل ذكرياته ومواقفه ومشاكساته وأحلامه وخيباته وطفولته، إلا أنها اعتذرت عن الحديث عن يوم ميلاده!
فعشرون عامًا كانت مدة انتظار مجيء "ياسر"، بعد تسع فتيات، حيث صمتت "سماح" وأشاحت بيدها أنه "لا كلام ولا أبجديات يمكن أن تسعفني للحديث عن مثل هذا اليوم وعن فرحة أبيه به".
قبل العيد بيومين، ترجت الأم "ياسر" أن يصطحبها إلى السوق لتشتري له "ملابس العيد" إلا أنه رفض لأنه لم يرد أن يضيع وقتًا كثيرًا كونه أحد المعتكفين في المسجد بالعشر الأواخر من رمضان.
وقبل يومين أيضًا من استشهاده تمنى لو أنه يستطيع أن يصنع طائرة ورقية كبيرة، ويطلقها في سماء غزة أمام جنود الاحتلال الذين يمنعون عودته إلى "القبيبة".
ابن المقاوم
كان "ياسر" مختلفًا، كونه طفلًا غزيًا لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره بعد، لكنه شهد ثلاثة حروب دامية، وما يزيد اختلافه هو أنه طفل نشأ في بيت مقاوم وأن أباه ليس شخصًا عاديًا.
والده "أمجد أبو النجا" هو أحد قيادات القسام، الذي قال لـ"ياسر" حين ودعه عند ثلاجات الموتى: "تعبت في تربايتك كتير يابا عشان تطلع أسد".
عبارة أبيه هذه التي تأثرنا بها، ظهر لنا تفسيرها جليًا حين وصلنا منطقة معن جنوب قطاع غزة، ووطئت أقدامنا المنطقة التي ترعرع بها "ياسر"..
فعلى نهج عمر بن الخطاب أنشأ "ياسر"، حين علمه السباحة والرماية وركوب الخيل، فالكل حديثه يدور عن ياسر الطفل بعمره الكبير بفعله.
عند قبر "ياسر" وقف "والده" على حافته، يبكي وهو ينظر النظرة الأخيرة لفلذة كبده الذي روى عطشه بعد عشرين سنة عجاف، قائلًا: "اشفع لي يابا تنسانيش.. أنا مش راح أنساك يا ياسر.. سلم على اعمامك هيثم وباسل.. وسلم على الشهيد العطار والشهيد ياسر الغلبان اللي سميتك على اسمه".
أطفال كبار
الدكاكين مغلقة، الأطفال يجلسون حلقات يتحدثن عن ياسر، والنسوة يخرجن من بيوتهن متوجهات إلى أم الشهيد مواسيات ومطبطبات وجميعهن متوشحات بالأسود، كما أن صور ياسر لم يبق جدار في المكان إلا وقد زينته.
وفي المشهد السابق لذلك روى الطفل "أحمد النباهين" لـ "الرسالة" اللحظات الأخيرة التي رافق فيها "ياسر" قبل ارتقائه.
فانتصاب القناصة واستعدادها للقنص لفتت انتباه "ياسر" فراح يحذر الأطفال من حوله خشية إصابتهم برصاصها، هو لا يعلم أنه كان المطلوب للجيش الذي لا يقهر ففرغوا رصاصات في رأسه.
قبل دقائق من استشهاده، ضحك "ياسر" لصديقه "يزن" وقال له: "خد هادي عصبتي عشان لو استشهدت اليوم تعطيها لأبويا".
غادرنا "معن" الحزينة جنوب القطاع، والتي لبست ثوب الحداد بأطفالها وكبارها ونسائها، ولم تغادر ذاكرتنا تمتمات النسوة في زقاق بيت "ياسر": "يا حرقة ابوك عرحيلك ياياسر"، "كان فرحة قلب امه"، "اجى على كوم بنات".
كما لم نتوقف عن ترديد ترانيم الوداع التي استقبلتنا صادحة في سرادق عزاء "ياسر": "الروح لا تنسى وهل تنسى الشهيد" !