للوهلة الأولى بدت دعوة مصر لحركتي حماس وفتح لاستئناف الجهود الهادفة إلى تطبيق اتفاق المصالحة الذي وقع في القاهرة قبل ثمانية أشهر كتحرك مستقل أقدمت عليه القاهرة؛ سيما وأن هذا التطور جاء في أعقاب تراشق إعلامي وحرب اتهامات غير مسبوقة بين الحركتين.
لكن الحقيقة أن السلطة الفلسطينية هي التي بادرت وعرضت على نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي التحرك ودعوة حماس لجولة جديدة من اللقاءات بهدف تطبيق ما تم التوافق عليه.
ويرجع حماس قيادة السلطة المفاجئ لتطبيق اتفاق المصالحة بشكل أساس إلى مخاوف هذه القيادة من التبعات السياسية والاقتصادية للمبادرات الأممية والإسرائيلية والإقليمية الهادفة إلى تحسين الأوضاع الإنسانية في القطاع.
وتدرك السلطة أن القاسم المشترك بين جميع هذه المبادرات يتمثل في تجاوزها وعدم تنفيذ مشاريع إعادة الأعمار والبنى التحتية المقترحة من خلال مؤسساتها.
ورغم أن هذه المبادرات تتجاوز أيضا حركة حماس ولا ترى فيها شريكا في تطبيقها، إلا أن قيادة السلطة باتت تخشى أن يمثل الشروع في تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار والتأهيل الاقتصادي من قبل المجتمع الدولي والقوى الإقليمية وبالتعاون مع إسرائيل إلى تكريس الفصل السياسي بين الضفة والقطاع مما يمس بمشروعية تمثيل قيادتها للشعب الفلسطيني مما يعيق تحركاتها على الصعيد الدولي.
إلى جانب ذلك، فإن قيادة السلطة تخشى التبعات الاقتصادية لتطبيق مبادرات إعادة تأهيل القطاع، حيث أن الكثير من الأموال التي سيتم تخصيصها لتنفيذ هذه المشاريع سيتم اقتطاعها من المساعدات الدولية والإقليمية التي تقدم سنويا لخزانة السلطة.
لقد كانت قيادة السلطة الفلسطينية ترفض التعاون مع المبادرات الهادفة إلى إعادة تأهيل قطاع غزة اقتصادية خشية تورطها في تحمل المسؤولية عن سلوك الفصائل والمجموعات الفلسطينية المختلفة العاملة في قطاع غزة، مما سيمكن إسرائيل من إضفاء شرعية على مواقفها الرافضة للوفاء بمتطلبات تحقيق تسوية للصراع.
لكن السلطة باتت تعي أن الأضرار الناجمة عن السماح بتنفيذ المشاريع الهادفة إلى تحسين الواقع في قطاع غزة بدونها أكبر من تبعات تحملها المسؤولية أمام إسرائيل عن سلوك الفصائل والمجموعات في غزة، سيما وأن تل أبيب شرعت في خطوات عقابية ضد السلطة بشكل مباشر بمعزل عما يحدث في قطاع غزة، والتي كان آخرها قرار اقتطاع المخصصات التي تدفعها السلطة للأسرى وعوائل الشهداء من عوائد الضرائب التي تجبيها.
ونظرا لأن السماح للسلطة الفلسطينية بأي دور في تنفيذ مشاريع إعادة إعمار غزة يتطلب عودتها لتولي مقاليد حكم القطاع، فإن هذا يعني محاولة إحراز التوافق مجددا مع حركة حماس من خلال تطبيق اتفاق المصالحة الذي وقعت عليه الحركتان.
ومما قلص قدرة قيادة السلطة على شيطنة مشاريع إعادة إعمار غزة جماهيريا من خلال محاولة ربطها بمشروع التسوية الأمريكي، الذي أطلق عليه "صفقة القرن"؛ حقيقة أنه تبين واضحا أن الضفة الغربية، التي تمارس فيها السلطة صلاحياتها، هي الساحة التي تقوم فيها إسرائيل، بدعم من الإدارة الأمريكية، بتطبيق بعض ما نسب إلى هذا المشروع من بنود، عبر تكثيف مشاريع الاستيطان والتهويد والتمهيد لمخططات الضم.
ومن أجل احتواء المخاطر المحتملة الناجمة عن تطبيق المصالحة، سيما تقليص قدرة تل أبيب على توظيفها في مواصلة محاصرتها واستهدافها، فإن قيادة السلطة تحاول استمالة إدارة ترامب مجددا من خلال السعي لإقناع رئيس الوزراء السابق سلام فياض بتولي رئاسة الحكومة مجددا بدل رامي الحمد الله؛ حيث أن رئيس السلطة محمود عباس يعي بأن فياض، الذي يعمل حاليا محاضرا في إحدى الجامعات الأمريكية، يحظى بثقة واشنطن.
ومما يغري عباس بالرهان على الحرص على تعيين فياض، الذي التقاه مؤخرا، كرئيس للحكومة مجددا، حقيقة أن هناك خلاف جوهري بين تل أبيب وواشنطن بشأن مستقبل الأوضاع في قطاع غزة، حيث أن إدارة ترامب ترى وجوب عودة السلطة لإدارة مقاليد الأمور هناك، في حين أن إسرائيل معنية ببقاء الوضع القائم، على اعتبار أنه يحقق هدفها المتمثل في تكريس الفصل السياسي بين الضفة والقطاع.
لكن تمهيد الطريق أمام تطبيق اتفاق المصالحة يتوقف أيضا على مواقف حركة حماس، حيث أنه من المرجح أن تعمد الحركة إلى استخلاص العبر والإصرار على تطبيق كامل وفوري ومتوازي لكل بنود اتفاق المصالحة.
وعلى الرغم من الاعتبارات المصلحية الآنية التي تدفع قيادة السلطة لمحاولة تطبيق اتفاق المصالحة، فإن انجاز هذا الهدف لن يكون سهلا، حيث أن الخلاف مع حماس لا يتمحور فقط حول مصير العقوبات الاقتصادية التي فرضها عباس على القطاع، بل إن هناك خلاف كبير بين الجانبين حول تطبيق البنود المتعلقة بمستقبل منظمة التحرير وطابع التمثيل في مؤسساتها وتشكيل مجلس وطني جديد وإجراء الانتخابات.
إلى جانب ذلك، فإن حركة حماس قد تتحفظ على التعاون مع فياض، بسبب دوره الحاسم كرئيس للوزراء ووزير للمالية في تجفيف بيئة المقاومة في الضفة الغربية من خلال انتهاج سياسات اقتصادية واجتماعية، ناهيك عن دوره في تكريس التعاون الأمني مع الاحتلال، ومواقفه من الصراع مع الاحتلال؛ حيث أنه سبق أن زعم في مقابلة مع "هارتس" بأن الضفة الغربية هي "مهد التوراة".