بات من المألوف تعمد الاحتلال إطلاق العنان لطائراته ومدافعه لقصف غزة في محاولة منه للتصعيد وتسخين جبهة القطاع في إطار سعيه لمواجهة مسيرات العودة الكبرى المستمرة منذ ثلاثة أسابيع، والتي لا يخفي الاحتلال خشيته الكبيرة منها.
واستهدفت طائرات الاحتلال عددًا من نقاط ومواقع للمقاومة الفلسطينية، إضافة لتجمعات للمتظاهرين السلميين شرق مدينة غزة.
وتتضارب التصريحات والتحليلات والرؤى بشكل كبير في الجانب الإسرائيلي عند الحديث عن خطوة مسيرات العودة وسبل مواجهتها، لكن الاجماع هناك حول أن سلمية المسيرات أخطر ما في الموضوع، وأكثر ما يقلق الجانب الإسرائيلي، خاصة أن هذا العنصر القوي في المسيرات حيّد الترسانة العسكرية للاحتلال.
ويخشى الاحتلال بوضوح استمرار هذه المسيرات وزيادة الزخم الذي تحظى به في ظل استمرارها، خاصة انها أعادت القضية الفلسطينية لصدارة الأحداث، ووجد الفلسطينيون فيها استراتيجية جديدة وأكثر جدوى في مواجهة الاحتلال.
ومع إدراك الاحتلال أن السلمية مؤلمة أكثر من المواجهة العسكرية، فإن عاموس يادلين، الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان"، قال إن ما تحققه المسيرات الشعبية على حدود قطاع غزة من شعور بالانتصار لدى الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، من شأنه أن يصعد من مستوى المواجهة في ساحة غزة، لا سيما أن هذه المسيرات تفرض تحديا أمنيا على (إسرائيل)، موجها ما اعتبرها توصيات لدوائر صنع القرار في (تل أبيب).
وقال: "إن هناك ضرورة للتجهز الجدي لإمكانية اندلاع مواجهة عسكرية جديدة في غزة من خلال التزود بوسائل قتالية وتفعيلها، وتكثيف جمع المعلومات الأمنية عما يحصل في غزة، لمعرفة نوايا المنظمات الفلسطينية بالضبط تجاه ما قد يحصل من تطورات مستقبلية، والتأهب لإمكانية وصول هذه التوترات الأمنية في غزة للضفة الغربية".
وأوضح يادلين في ورقة بحثية نشرها معهد أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة (تل أبيب)، الذي يترأسه، أن (إسرائيل) دفعت ثمنا ومنيت بخسائر قاسية، حيث تلقت انتقادات دولية قاسية وخطيرة لم تسمع بها منذ سنوات طويلة، كما عادت القضية الفلسطينية للصدارة الدولية، ولولا الدعم الأمريكي للموقف الإسرائيلي، لكانت لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة في طريقها إليها".
كما تجلت العزلة التي تعانيها (إسرائيل) في أروقة الأمم المتحدة، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فضلا عن الانتقادات الداخلية التي ظهرت داخلها حول التساهل في تعليمات إطلاق النار باتجاه المتظاهرين الفلسطينيين، وما قيل عن عدم التناسب في استخدام القوة، وعدم اللجوء لوسائل لتفريق المتظاهرين الذين حاولوا اجتياز الحدود دون إيقاع ضحايا في صفوفهم.
ولا يكف الجانب الإسرائيلي عن التهديد بالحرب فقد هدد باستهداف "مواقع ومصالح" لحركة حماس في قطاع غزة في حال استمرار التظاهرات، حيث يحاول الاحتلال بقوة ربط هذه المسيرات بحركة حماس كمحاولة لتبرير مجازره ضد المدنيين العزل، وهي مهمة فشل في تحقيقها حتى الآن، خاصة أن الاحتلال من الصعب أن يقبل بتحويل منطقة السياج إلى معركة استنزاف ساخنة طوال الوقت سواءً فوق الأرض عبر استمرار المسيرات، وتحتها عبر استمرار حفر الأنفاق.
وهي ذات التهديدات التي حملها أورن شاحور، المنسق الأسبق لشؤون المناطق الفلسطينية في الحكومة الإسرائيلية في تسعينيات القرن الماضي، في مقابلة مطولة مع صحيفة معاريف حيث قال "المواجهة العسكرية المتوقعة في غزة قادمة لا محالة"، محذرا أن "حماس قد تبادر بإطلاق النار، وفتح هذه الجولة من الحرب الجديدة، مع العلم أن القبة الحديدية التي تحوزها (إسرائيل) لن توفر لها حماية مطلقة أمام جميع القذائف التي تحوزها حماس، وسوف تطلقها على المدن البعيدة نسبيا عن غزة".
ويبدو أن الاحتلال قد يلجأ لجر القطاع نحو عدوان موسع للخروج من مأزق المسيرات وسلميتها خاصة أنه ما زال عاجزا عن مواجهتها وفي ظل تزايد التأييد الدولي للمسيرات والرفض للقوة والهمجية التي يتعامل بها الاحتلال مع المتظاهرين العزل.
إلا أن مؤشرات الميدان ما زالت بعيدة جزئياً عن التصعيد في ظل إدراك فصائل المقاومة لهذا المأزق الإسرائيلي ورغبتها في تفويت الفرصة عليه لعدة أسباب:
- دعم المسيرات بمزيد من السلمية والتي من المأمول أن تحقق أفقا أبعد على صعيد القضية الفلسطينية، وتفويت الفرصة على الاحتلال في إفشالها.
- تلاشي التصعيد الذي يهدف منه الاحتلال المزيد من التدمير للقطاع خاصة في ظل الأزمة الإنسانية التي تعانيها غزة مع فرض المزيد من العقوبات من قبل السلطة.
- إصرار الجانب الفلسطيني على خوض وسيلة جديدة من النضال الشعبي الذي لم يجر تعزيزها بهذه القوة من قبل ما قد يؤسس لمرحلة سياسية جديدة.