اطَّلعتُ على ورقة بحثية عسكرية صادرة حديثًا، أعدها "غادي إيزنكوت"، رئيسُ أركان الجيش الاحتلال الإسرائيلي في مجلة الجيش العسكرية حول رؤيته لمستقبل الجيش خلال الأعوام الثلاثين القادمة يقول فيها: " كل من يحاول التنبؤ بالمستقبل سوفَ يُدرك قريبًا أنَّ القدرة على التنبؤ هي دائمًا محدودة، ومع ذلك من الممكن تقييم تحديات الأمن القومي الإسرائيلي التي ستكون مطلوبة، والتي ستكون معقدة مثل تحديات الماضي، ويمكن أيضًا الافتراض، أنَّ الجيش الإسرائيلي في دولة ستبلغ 100 عام ستظل بحاجة إلى قدرات متطورة، رأس مالها العنصر البشري، والتفوق التكنولوجي والاستخباراتي، ولوضع تصورات مستقرة لاستخدام القوة والأسلحة المتقدمة".
واستعرض "إيزنكوت" في نظرة تاريخية، أهمية التغييرات على الجيوش الأخرى، وأنه في بعض الأحيان نحتاج إلى الفشل؛ للتغلب على هذه التغيرات والتأخيرات، ومع ذلك يكشف التحقيق الذي أُجري في الماضي عن الجيش الإسرائيلي كيف كانت لديه ميزات عند تأسيسه مما قد يساعد بالفعل في مواجهة تحدي التغيير المطلوب.
وقالت الدراسة: خلال الحرب العالمية الثانية، اعتقد الفرنسيون أن قتالهم المستقبلي ضد الألمان سيكون مشابهاً لمستقبل الحرب العالمية الأولى، الأول دفاعي ومطول، ومن ناحية أخرى، تمكن قادة الجيش الألماني من تحليل إخفاقات حروب الماضي والتفتوا إلى التخطيط لمعركة حديثة، وهجومية وقصيرة.
كما واجه الجيش الأمريكي صعوبات في فيتنام، باعتماده على قوته التقليدية، الغنية بالنيران والقوة الجوية، ضد عدو يحارب بمبادئ حرب العصابات، فهو من يحدد المكان والوقت المناسبين للقتل، وكان فشل الجيش الأمريكي في حرب فيتنام على المدى الطويل بسبب صعوبات في فهم طبيعة المواجهة، وعدم مطابقة تحديد المهام وكيفية بناء وتشغيل القوة الحربية.
وأضاف إيزنكوت: هناك أسباب أخرى -ليست عسكرية- تؤدي إلى حدوث تغيير في الجيوش، فعلى سبيل المثال: التغيرات التي حدثت للجيش الإسرائيلي في أعقاب الأزمة الاقتصادية عام 1980، ساهمت في عملية تخفيض الجيش في ذلك العقد، حيث تم تسريع تلك التغييرات نتيجة للتغيرات الجيوسياسية، بما في ذلك انهيار الجيش العراقي في حرب الخليج عام 1991، مما أدى إلى اختفاء التهديد من الجبهة الشرقية لـ(إسرائيل).
بالإضافة إلى ذلك، أدى تطوير التكنولوجيا في إحداث تغييرات عسكرية إلى حد كبير، تم ذلك عن طريق إدخال أسلحة متطورة عملت على تغيير مفهوم الحرب، والطريقة التي تعمل بها القوات العسكرية فعلى سبيل المثال: تطوير أنظمة للدفاع مثل نظام "القبة الحديدية"، مما أدى إلى تنمية المكوِّن الدفاعي لمفهوم "الأمن الإسرائيلي".
هذه الأمثلة التاريخية، وكذلك التغيير في الجيش الإسرائيلي في ضوء الدروس المستفادة من الحروب (حرب أكتوبر، والحروب الأولى والثانية في لبنان وحروب غزة)، فالجيوش تجد صعوبة في التكيف مع التحديات التي تواجهها، دون أن تعاني من عدم النجاح، مما يؤدي إلى التفكير العميق.
وضع الجيش الإسرائيلي في سنواته الأولى:
أوضح "إيزنكوت" أنَّ فهمَ طبيعة التغيرات في الجيش تتكون من خلال التغييرات الخارجية أو الداخلية، وهي عنصر مهم جداً في طبيعة وتكوين الجيش، وتكمن في جوهرها القيم والثقافة والمنظمات التي دعمته منذ بدايتها.
ويقول شكلَت القيم والالتزام بالجيش الإسرائيلي جزءاً من هويته منذ تأسيسه، بالإضافة إلى قيم مثل: القيادة من أجل النصر والهجوم، والمبادرة والعزم والحفظ على "طهارة السلاح" التي أنشأت خلال الحرب جزءاً كبيراً من الجيش الإسرائيلي.
من الناحية التشغيلية، بدأت الحرب بسياسة سلبية ودفاعية بالجيش الإسرائيلي، وانتهت بعمليات هجومية مثيرة للإعجاب، كعملية "حيرام"، التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي إبان الحرب العربية الإسرائيلية 1948، وقد تولى قيادة العملية الجنرال "موشيه كرمل"، وكان هدفها الاستيلاء على منطقة الجليل الأعلى من جيش الإنقاذ العربي بقيادة فوزي القاوقجي والكتيبة السورية، العملية التي دامت 60 ساعة (29-31 أكتوبر)، اتسمت بالعديد من المجازر وانتهت قبل دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وعملية "حوريف" في الجنوب.
استخدمت القوات الإسرائيلية مبادئ الهجوم والمبادرة وهي جزء من المقاربة الأمنية الإسرائيلية، وفقاً لمبدأ "نقل القتال إلى أراضي العدو"، حيث بدأت الحرب بمعارك غير مؤللة بين فصيلة وفصيلة، والتي تعمل في ظروف متعددة وبدون عقيدة ثابتة خلال الحرب.
حدث تغير في هيكل هيئة الأركان العامة بشكل طفيف خلال السبعين سنة الماضية، فقد أدى التوسع في الحرب والزيادة في عدد الألوية المقاتلة إلى قرار تنظيم منطقة الحرب وإنشاء مقر للشمال، والقدس والنقب. هذه الأوامر أصبحت فيما بعد مكانية.
وفي مجال الأفراد وتحت عنوان "كل الأرض هي جبهة - وكل الشعب جيش" تم اتخاذ الخطوات التالية:
* الانتقال من جيش متطوع إلى جيش يعتمد على التجنيد.
* تدريب الجنود على مجموعة متنوعة من مواقف القيادة والقتال.
* استيعاب المهاجرين الجدد في الوحدات القتالية.
* إدارة التوتر بين خريجي الفيلق اليهودي في الجيش البريطاني وأعضاء "البلماخ".
ويمكن القول، إنَّ التغييرات التي تم إجراؤها منذ قيام دولة الكيان - بناء جيش في خضم حرب صعبة - يشكل الأساس الذي يقوم عليه الجيش الإسرائيلي حتى يومنا هذا، على الرغم من مرور 70 عامًا خضع فيها الجيش الإسرائيلي لمجموعة متنوعة من التغييرات، بالهيكل العام لهيئة الأركان العامة، والجبهات والأوامر، والفروع، والتجنيد، وما إلى ذلك.
واقع الجيش الإسرائيلي اليوم:
في المقابل، يشرح "إيزنكوت" في دراسته أنه في السنوات الأخيرة شهد الجيش الإسرائيلي العديد من التغييرات، خصوصاً في مجال البناء التنظيمي والأفراد، حيث يتم إجراء التغييرات وفقًا للتحليل الاستراتيجي في الجيش الإسرائيلي، وذلك في إطار خطة "جدعون" الحالية لعدة سنوات، والتي بدأت في عام 2015 وتستمر حتى عام 2020.
إيزنكوت يقول: "ووفق الخطة، ستقوم (إسرائيل) بتقليص أفرع الجيش ابتداءً من القوات النظامية وحتى قياداته، مقابل تعزيز حجم القوات الخاصة، ليتضاعف حجم نشاطها ثلاث مرات، فيما يتم تطوير قيادتها لتشبه قيادة العمليات الخاصة في الولايات المتحدة، التي تُدرب وتدير "جيشًا مختلفًا" لا يفكر ولا يعمل مثل الجيش التقليدي. فالقاعدة الجديدة هي جيش محترف يعمل بالتوازي مع "جيش الشعب".
ويضيف، يظهر التحليل الاستراتيجي للجيش الإسرائيلي أن العوامل الأكثر تأثيراً في واقع الجيش الإسرائيلي اليوم هو التهديد الخارجي، على سبيل المثال: تهديد الجيوش مع ارتفاع خطر المنظمات شبه الحكومية كحزب الله وحماس والمنظمات الجهادية العالمية، والتهديد الذي يشكله العدو من عمق أراضيه، جنباً إلى جنب مع العوامل الداخلية، مثل التغيرات في المجتمع الإسرائيلي، خصائص المجندين، واحتياجاتهم من كفاءة استخدام الموارد.
وبسبب نفس العوامل، تم إدخال بعض التغييرات على خطة "جدعون" نظراً للتهديد المتزايد من المنظمات شبه الحكومية، وأعطيت الأولوية لاستعداد الجيش الإسرائيلي وتعزيز القوة البرية، واستجابة كاملة للموازنات المخططة للتدريب على الأرض.
ومع ذلك، يقول "إيزنكوت" في ضوء التغيير الذي حدث في ساحة المعركة، وانتشار الأسلحة المستخدمة (على سبيل المثال: الطائرات بدون طيار)، وبيئة القتال الشبكية.. إلخ، نوقش في إطار خطة "جدعون" مسألة "من هو المقاتل؟"، ودور هذا المقاتل الذي يهاجم العدو في الوقت الذي تُهَدد فيه حياته، لذلك تم التمييز بين "المحارب المحترف" والمتطوعين الآخرين.
ونتيجة للتهديد الكيماوي وما يشكله، فقد نُفِّذت عمليات مختلفة في هذا المجال، كما جاء التحول في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في شعبة الحوسبة والدفاع في مركز الخدمة المدنية، وتعزيز مستوى وقدرة المخابرات في مجال الاختراق التكنولوجي.
وفي الوقت نفسه، يتم إجراء تغييرات تنظيمية، لتعزيز القدرة التشغيلية في عمق وحدة "الكوماندوز"، وتم توسيع نطاق المسؤوليات في مقر هيئة الأركان العامة، التي أُنشِئَت منذ ست سنوات، والتنسيق بين عاملي التحكم التكنولوجي ومديرية النقل والإمداد هي خطوة مهمة أساسية لتحسين القدرة في بناء القوات البرية.
كما تم التركيز على التدريب المهني من خلال إنشاء المؤسسات التعليمية العسكرية لتعزيز تدريب القادة، مثل إنشاء أكاديمية للقيادة والسيطرة، بالإضافة إلى ذلك، فإن الأكاديمية العسكرية في مراحل التخطيط والبناء في القدس سيكون تحت سقفها الأكاديمي كلية القيادة التكتيكية، وكلية القيادة والأركان وكلية الأمن القومي، وفي هذه الأكاديمية سيكون مجموعة من الخبراء الأكاديميين الذين سيتخصصون في الدراسات العسكرية.
وفي مجال القوى العاملة، يتعامل الجيش الإسرائيلي مع مجموعة متنوعة من التحديات التي تتأثر بالعوامل المحلية، بما في ذلك تقصير الخدمة الإلزامية وتجنيد سكان إضافيين، بما في ذلك "الأرثوذكس" المتطرف والنساء، لمواجهة التحديات والمخاطر.
الاتجاهات الرئيسية في تشكيل الجيش الإسرائيلي للمستقبل
استدرك "إيزنكوت" قائلاً: "مع التغييرات العالمية التي حدثت في السنوات الأخيرة، وعلى وجه الخصوص في الشرق الأوسط، يجب العلم أنه من المحالِ التنبؤ بميدان المعركة في المستقبل، وسوف تكون التحديات التي تواجه الجيش الإسرائيلي متأثرة بمجموعة متنوعة من المتغيرات، مقسمة إلى ثلاث مجموعات:
1. البيئة الدولية (الوضع الجغرافي السياسي، تطور التكنولوجيا).
2. العدو في المستقبل.
3. الاتجاهات الداخلية في الجيش الإسرائيلي (العلاقات العسكرية- الاجتماعية، القيم،
الديموغرافيا).
وعلى الرغم من قيود التوقع، يمكننا تحديد بعض الاتجاهات التي يبدو أنها ستستمر خلال الثلاثين عاماً القادمة:
الحفاظ على جودة العاملين بالجيش، والتحدي في هذا المجال يتطلب قوى عاملة أكثر مهنية، وانخفاض في العدد الإجمالي للقوى العاملة، ومن أجل التعامل مع هذا التحدي، فإنه من المهم جداً الاستمرار نحو الاحتراف والتفاضل الذي بدأ في السنوات الأخيرة.
وكجزء من هذا الاتجاه، تم تمديد مسارات الخدمة في الوحدات الخاصة وفي لواء "الكوماندوز"، مع تقليل عدد المجندين في كل دورة، بالإضافة إلى ذلك، سيكون من الضروري الحفاظ على نموذج "جيش الشعب" بالمنظور طويل الأجل، بسبب إسهامها المهم في أمن وتماسك المجتمع الإسرائيلي.
السرعة في تغيير ساحة المعركة، وتيرة التغييرات في جميع المجالات ستكون عالية، على الأقل مع وتيرة التغييرات الحالية وأكثر من ذلك، التخطيط على المدى الطويل، تحت عنوان "استراتيجية القتال في الجيش الإسرائيلي"، والتفكير في عمليات بناء القوة على المدى الطويل، فعملية التخطيط طويل المدى ضرورية لتبسيط عمليات بناء القوة، والتخطيط على المدى الطويل سيكون هو البوصلة للتخطيط في النطاقات الزمنية الأخرى، دون التصلب مع وجود المرونة المكانية، المرونة ستسمح بإجراء التعديلات التي تنطبق على البيئة وتلبية الاحتياجات المتطورة.
أهمية القوات البرية:
وأضاف "إيزنكوت"، حتى ثلاثين عاماً سيبقى العامل البشري هو ساحة المعركة الرئيسية، على الرغم من أن القتال سيكون له مكونات تكنولوجية، وحتى اللحظة أظهرت الوقائع الميدانية أهمية وضرورة القوات البرية، ويمكن أن نخلص إلى أنه سيكون من الأهمية المناورة الأرضية والالتقاء الجسدي للقوات المحاربة، وجهاً لوجه، على الرغم من التغيير الذي حدث بشكل جذري في طبيعة القتال، مثل الحروب السيبرانية والتكنولوجية، ويبقى هناك حد لقوة الآلة، لذا ستستمر مركزية العمليات البرية في التعامل مع التهديدات، وفي ضوء ذلك، وعلى الرغم من الاستثمار في التكنولوجيا، سيكون مطلوباً من الجيش الإسرائيلي الحفاظ على جهد مستمر لتعزيز نظام المناورة الأرضية، في حين يجري التدقيق في نوعية قيادته وضابطه.
عشرة مبادئ ستكون البوصلة:
وخُتمت الدراسة العسكرية بالمبادئ العشرة التي وضعها "إيزنكوت": "لقد تم تكوين الجيش الإسرائيلي خلال حرب صعبة، وأظهر قدرة غير عادية على التعلم، لكن الواقع على الارض مستمر بالتغير، ومن أجل الحفاظ والاستمرار بالأمن بالنسبة لـ(إسرائيل) ومواطنيها، يجب أن تكون المبادئ العشرة هي البوصلة للجيش الإسرائيلي حتى عام 2048م:
1. الحفاظ على قيم الجيش الإسرائيلي وتعزيزها، روح وهدف الجيش حماية (إسرائيل) والفوز في كل حرب.
2. جيش عملياتي ذو قدرات هجومية قوية، تحافظ على ميزاته النوعية.
3. أن تظل ثقة الجمهور في الجيش الإسرائيلي الدعامة الأساسية للجيش، مع الاحتفاظ بالتعديلات المهنية المطلوبة.
4. المشاركة في تعزيز الالتزام والتماسك بين أفراد الجيش من الجنسين، وتعزيز المسؤولية المتبادلة والرغبة في الخدمة في أدوار قتالية.
5. الحفاظ على جيش بري قوي يتمتع بالقدرة على المناورة ضد التفوق، والتكيف مع تحديات المستقبل.
6. الحفاظ على التفوق الجوي والبحري، وتطويع الذراع الجوية والبحرية مع تحديات المستقبل.
7. الحفاظ على الذكاء والتفوق التكنولوجي والتشغيلي، وتكامل ذكاء الأفراد والتكنولوجيا والقدرة التشغيلية والروح القتالية.
8. تعزيز القدرات وتطوير شبكات التحكم في البعد القتالي الرابع، بالإضافة إلى البر والجو والبحر.
9. تكييف الجيش الإسرائيلي لاحتمال وجود أسلحة دمار شامل بالشرق الأوسط من خلال صياغة مفهوم يتضمن استجابة دفاعية وصلاحيتها للتنفيذ.
10. الحفاظ على قوة الجيش الإسرائيلي في الشرق الأوسط وحرية العمل للقيادة السياسية للحفاظ على علاقات حسن جوار آمنة محددة والتي من شأنها تحقيق السلام من القوة.
من خلال ما طرحه "إيزنكوت" في ورقته البحثية يمكنني القول، شكلت وثيقة "آيزنكوت" التي نشرت باسم "استراتيجية الجيش الاسرائيلي" عام 2015 ورؤيته للثلاثين عاماً القادمة خطوة لم يجرؤ عليها أحد من رؤساء الاركان السابقين، ما يطرحه "آيزنكوت" يحدد النهج الذي سيسير عليه الجيش في المستقبل لمواجهة الخطر المحدق بـ(إسرائيل)، سواء من حماس أو حزب الله او ايران وأن الجيش الاسرائيلي يقوم بتطوير قدراته الهجوية سواء البرية أو البحرية أو الجوية، لتكون قوة رادعة ضد أي هجوم يتعرض له، تعتبر رؤى "آيزنكوت" خطوات متقدمة ونوعية في تاريخ الجيش الاسرائيلي، وفي تقديري إن ما طرح من أفكار قد تكون مساعدة لقوى المقاومة في طريق اعدادها ووضع الخطط المناسبة لمواجهة الجيش الاسرائيلي في المستقبل، وتسهم في معرفة التفكير العسكري ومسار حروبه القادمة.