الحمد لله الواحد القهار، الذي لا يخفى عليه فعل مخلوقٍ بليل أو نهار، فعله جهرةً أو بإسرار، ولا يغيب عن علمه صغائر الأمور ولا الكبار، وأصلي وأسلم على من بعثه الله هدايةً للناس فاتبعه الأطهار الأخيار، أما بعد.
فقد قال أبو حفص النيسابوري معرفا الخوف من الله: " الخوف سوط الله، يقوم به الشاردين عن بابه، وقال: الخوف سراج في القلب به يبصر ما فيه من الخير والشر، وقال أبو سليمان، ما فارق الخوف قلباً إلا خرب " (مدراج السالكين1/513).
والخوف من الله عبادة من العبادات القلبية لذلك فإن ثوابها عظيم، والاستهانة بها عقابها وخيم، والعبادات المتعلقة بالجوارح تابعة للعبادات القلبية، فالقلب نقطة الانطلاق فإن استقام وصلت لأفضل مقام، فعن عن أنسٍ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه " (رواه أحمد).
وقد يتبادر لذهن سائل سؤال، هل للخوف من الله حد وقدر معين؟
و الإجابة: نعم، فقد قال ابنُ رجبٍ - رحمه الله تعالى -: " والقدرُ الواجبُ من الخوفِ: ما حمَلَ على أداءِ الفرائِض، واجتِنابِ المحارِم، فإن زادَ على ذلك بحيثُ صارَ باعِثًا للنفوس على التشميرِ في النوافِل والطاعات، والانكِفافِ عن دقائِق المَكروهات، والتبسُّط في فُضلِ المُباحات كان ذلك فضلاً محمودًا، فإذا تزايَدَ على ذلك بأن أورثَ مرضًا أو موتًا أو همًّا لازِمًا بحيث يقطعُ عن السعيِ لم يكُن محمودًا ". ثم اعلم يا رعاك الله أن أنهار الدنيا وبحارها مجتمعة لا تستطيع أن تطفئ جمرةً واحدةً من نار جهنم، لكن دمعة خائفٍ من عقاب ربه وغضبه وراجٍ لرحمته ورضاه باستطاعتها أن تحجب عنه لظى جهنم وحرها.
ويصدق ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللهِ " (صحيح الجامع).
فخشية الله عبادة عظيمة جليلة تقود العبد إلى مرافئ النجاة، فكل شيء يخافه الإنسان يفر منه إلا خوفه من ربه فإنه يقوده اليه، لينعم بالأمان والاطمئنان النفسي والقلبي بعد كل طاعة وبعد كل مرة يفر بها من معصية بتوفيق الله له.
وكم ترتاح النفوس المقبلة بإخلاص على رضى ربها حين تسمع قوله جَلَّ ذِكْرُهُ: { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الْملك: 12].
والخوف من الله وخشيته في السر والعلن أيها الأحبة الكرام عبادة جعلها الله تبارك وتعالى من لوازم الإيمان، فقال جَلَّ ذِكْرُهُ: { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [آل عمران: 175].
يقول السعدي في تفسيره: وفي هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده، وأنه من لوازم الإيمان، فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفه من الله، والخوف المحمود: ما حجز العبد عن محارم الله.
وقد جعل الله خشيته مرتبطة بطاعته وطاعة رسوله ورتب على ذلك فوزا في الدنيا والآخرة، فقال جَلَّ ذِكْرُهُ: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } [النور: 52].
وهذا نموذج من النماذج العطرة في زمن صحابة رسول الله، نموذج يقف المسلم عنده وقفة تأمل وتدبر لحقيقة الخوف من الله، قال نافع: خرجت مع ابْنِ عُمر في بعض نواحي المدينة، ومعه أصحابٌ له، فوضعوا سُفرةً، فمرَّ بِهم راعٍ، فقال له عبدالله: هلمَّ يا راعي، فأصِبْ من هذه السُّفرة.
فقال: إنِّي صائم.
فقال له عبدالله: في مثلِ هذا اليومِ الشَّديد حرُّه، وأنت في هذه الشِّعاب في آثارِ هذِه الغنَم، وبين الجبال ترعى هذه الغنم، وأنت صائم!
فقال الراعي: أُبادر أيَّامي الخالية، فعجِب ابنُ عمر.
وقال: هل لك أن تبيعَنا شاةً من غنمِك نجتَزِرُها، ونُطْعِمك من لَحمها ما تفطِرُ عليه، ونعطيك ثَمنَها؟
قال: إنَّها ليستْ لي، إنَّها لمولاي.
قال: فما عسيْتَ أن يقول لكَ مولاك إن قُلْتَ: أكلها الذئب؟
فمضى الرَّاعي وهو رافعٌ إصبعَه إلى السماء، وهو يقول: فأين الله؟
قال: فلمْ يزل ابنُ عُمر يقول: قال الراعي: فأين الله.
فما عدا أن قدِم المدينةَ، فبعث إلى سيِّده فاشترى منه الرَّاعي والغنم، فأعتق الرَّاعيَ، ووهبَ له الغَنم رحِمه الله. (صفة الصفوة:2 / 188 ).
إذن فحقيقة الخوف أنَّه يدفع بصاحبه للخير والصلاح والمحاسبة لأجل الفوز والفلاح، فحري بالمسلم أن يعيش في ظلال هذه العبادة ليُحسن العمل وليرقى في سلم الطاعة الذي يوصله إلى منازل الخائفين والراجين.