ثلاث ورقات بيضاء خرجت من الأسر قبل عمر العبد، يفتح عيناه خلالها الى سقف غرفته قبل أن يكتب أفكاره الخضراء، مصباح مثبت في جانب السرير، ووجه والده مقيم في سجنه المؤبد هنا، وقريته "كوبر" في قلبه تنبض ويزداد النبض كلما اقتربت ذكرى "حلميش".
تموز الماضي كانت القدس تغلي كما قلب عمر حين صرخت احدى المقدسيات " فش زلام؟"، ظن وقتها أن السؤال قد وجه له، فعليًا كانت الصفعة الأقوى على وجنتي ابن التاسعة عشر ربيعًا!
"فتحت الباب فاذا بي وجها لوجه مع أربعة مستوطنين، فابتسمت فرحًا كأني لم أذق تعباً في مسيري عبر الجبال لأصل هذا المكان.. ابتسمت لأنه لم يخيل لي أن رحلتي ستكون بهذه السهولة.. ابتسمت لأني وجدت ثأري وثأر حرائر الأقصى أمام ناظري".
بعد عام كامل يسرد الأسير عمر العبد تفاصيل عمليته في مستوطنة "حلميش" التي حسمت على إثرها معركة البوابات الالكترونية على مداخل المسجد الأقصى، يسرد دون حاجة للبوح بصوت مرتفع، فقط عليه أن يكتب لتهرب حروفه خارج المعتقل!
خلية عسكرية!
فعليًا فكر عمر في تشكيل خلية عسكرية، فلقد بدأ بجمع المال من مصروفه لشراء مسدس، الا أن ازدياد حدة المواجهات في القدس غير مخططه كليًا!
يقول عمر من داخل معتقل عوفر: "يوم الثلاثاء مساءً عدت الى البيت وبدأت بتصفح الانترنت كعادتي فشدني صراخ احدى حرائر القدس وهي تقول "مفيش زلام؟" وكانت تكبر بعلو صوتها وهي تواجه جنود الاحتلال برفقة مجموعة من الحرائر، فقررت ألا أضيع الوقت، وبدأت أفكر في عمل فردي يرد على غطرسة الاحتلال في القدس".
في ذلك الوقت لم يكن لدى عمر قناعة بأن السكين "ستروي عطشه للثأر" على حد تعبيره، الا أنه وجد نفسه يخط وصيته مساء يوم الخميس 20-7-2017 وأرسلها عبر الفيس بوك لصديق له في غزة، منبهًا بنشرها في تمام الساعة الثامنة والنصف مساءً من اليوم التالي.
تحول منام ابن قرية كوبر الى حقيقة بعد أن رأى أنه يركض بين شجر كثيف، وفي نهاية الأحراش واجهه سياج عالٍ استطاع اجتيازه عبر تسلق شجرة.
"في ذلك الوقت لم تكن حلميش في ذهني حيث أنني لم أقترب منها من قبل، كما أنني لم أكن أعرف الطريق جيداً، ومع ذلك حملت سكيني وتوجهت اليها يوم الجمعة الموافق 21 من تموز لعام 2017.
حلم على بعد أمتار!
اجتاز عمر سياج المستوطنة الأول فالثاني، لكنه تفاجأ بأن السياج الثالث موصول بدائرة الكترونية تكشف الاختراق، فبدأ يفكر فيما يجب عليه فعله،" لم يكن الانسحاب جزءًا من خطتي" يؤكد عمر!
ذهابًا وايابًا مشى خطواته بجوار السياج وحيدًا الا من فكرته أن يتسلق الشجرة ليدخل عبرها الى مقبرة المستوطنة ويغدو حلمه على بعد أمتار، يعلق بالقول " كأنها شجرة المنام!"
يجلس الآن عمر في مقبرة "حلميش"، يتأمل سكينته، ويحاول مد قلبه بالكثير من ثقة النفس، ويتساءل دون إجابة:" كم مستوطن سيزور هذه المقبرة بفعل هذه السكين؟".
اقترب عمر من باب البيت المقابل للمقبرة، اختار الباب المؤدي إلى المطبخ، وهنا يصور عمر ما حدث بقولهِ: " فتحتُ الباب فوجدتُ نفسي أمام أربعةِ مستوطنين فابتسمت" وأضاف عبر رسالته: "بدأت إحدى المستوطنات بالحديث بالعبرية ثم رأت بيدي سكيناً فحاولت الخروج من المنزل فدفعتها بيدي وغرست السكين في قلبها".
أحد المستوطنين كانت بنيته ضخمة جدًا بالنسبة لجسد عمر النحيل، هجم عليه محاولًا أخذ السكين منه، ينوه عمر أنه لا يعرف كيف أصبح فوقه فقام بتوجيه طعنات متكررة لصدر المستوطن، يخالها عشر طعنات، كتلك التي نالها مستوطن ثالث جالس قرب الحائط، في حين ترك مستوطنة رابعة كبيرة في السن دون أي طعنة!
في تلك الأثناء دخل مستوطن بسلاحهِ الى البيت فلحقه عمر حتى هرب الى الخارج ليجد مجموعة من المستوطنين مدججين بالسلاح تحاصر البيت، وبعدها انطلقت صافرات الانذار في "حلميش".
"أنا مستعجل"
استقرت احدى الرصاصات في قدم عمر قبل أن يزحف متوجهًا للمطبخ، استند على جدرانه، زفر قلبه الآه، لم يكن وجعًا، بل شعورًا بنصره ووفائه لمرابطات القدس.
سقط عمر على الأرض بعد نزيف قدمه وقام بتمثيل دور الميت ابان تعزيزات جيش الاحتلال لمداهمة البيت لاعتقال عمر الذي نقل بعدها الى مستشفى سوروكا في بئر السبع لبدء التحقيق.
في أقبية التحقيق حافظ عمر على ابتسامته لمدة شهر كامل، يقول: "عندما سألني المحقق عن شعوري كوني قاتل، قُلتُ له "أنا أسعد إنسان في هذا العالم"!
ابتسامة عمر دفع مقابلها مؤبدًا رابعًا، فعضلات وجهه حين تتمدد تغضب جموع المستوطنين خلال محكمته والذين ما فتئوا يكررون "المخرب بيضحك، القاتل بيضحك"، في حين يرد عمر على القاضي الذي يؤكد له بضرورة إعدامه حتى تختفي الابتسامة، "استعجل في حكمك قبل الشتاء فأنا مستعجل"!
لم ننس المستوطنة التي تركها عمر ولم يقتلها، كانت هي الأخرى حاضرة خلال محكمة عمر وطالبت بإعدامه، مؤكدة أنها حمت الأطفال، فرد عمر قائلاً: "لم يكن هناك أطفال في البيت ثم أنها لم تكن قادرة على حماية نفسها فكيف ستحمي غيرها (...) لو أردت قتلها لقتلتها ولكني أبقيت على حياتها لأنه ليس من شيمي قتل النساء".
انتهت تفاصيل "حلميش" في ذكراها الأولى، فعليًا لم ينته أثر عملية عمر البطولية، حيث اضطرت قوات الاحتلال على إثرها لسحب البوابات الالكترونية والكاميرات من محيط المسجد الأقصى، وظلت ابتسامة ابن "كوبر" تتمدد في كل صورة تصلنا من معتقله!