قبيل طلوع الفجر يحمل المواطن صلاح أبو وردة متاعه ويقصد الحدود الشرقية القريبة من السلك الفاصل لمنطقة شمال غزة القريبة من ساحل البحر، حاملاً معه متاع صيد الطيور من "الشباك القلابة " والعصي والأقفاص الفارغة، وعصفور يستخدمه لمناداة اسراب العصافير، لجلبها إلى الشباك التي نصبها بإحكام وابتعد عنها قرابة الـ 40 مترًا.
قبيل مباشرة الأربعيني الصيد، اقتربت "الرسالة" منه قليلاً، ليكشف تفاصيل هذه المهنة التي تحتاج لخبرة كبيرة وتفاصيل يصعب إتقانها، كونها تستقطب الطيور المحلقة بالسماء، وأهمها طائر الحسون ذو الثمن المرتفع، والعديد من الطيور الأخرى الأقل ثمنا مثل (الخضرة، والحمرية، والسمان والحمام البري)، وعدد من الطيور الجارحة مثل الصقر والنسر، التي بدأت بالتضاؤل في قطاع غزة بسبب ممارسات الصيد الجائر.
يقصد أبو وردة الذي دفعته البطالة للممارسة مهنة الصيد المناطق الحدودية للصيد كونها خالية من السكان، وتتوافر بها أصناف عديدة من الطيور إما المهاجرة أو المقيمة، ما يجعل فرص الصيد أكثر كلما اقترب من الحدود مع الاحتلال، إلا أن وحشية القناصة تجعلهم يبتعدون قليلاً عن السلك الفاصل، ليباشروا بعملهم الذي يندرج تحت "الصيد الجائر"، وتسبب في تقليص أعداد الطيور المتنوعة في قطاع غزة بشكلٍ ملحوظ.
بدأت بالاختفاء
ويكشف عبد الفتاح عبد ربه الأستاذ المشارك في علوم البيئة في الجامعة الإسلامية، أن الصيد الجائر لبعض أنواع الطيور خاصة الحسون الذهبي، أفرغها من البيارات والبساتين في قطاع غزة، وكان من الممكن مشاهدتها خلال العقود الماضية، أما الآن فلم يعد لها أثر سوى في الأسواق ومحال بيعها وتشهد أسعاراً مرتفعة.
ويوضح عبد ربه، أن الصيد الجائر قلص طائري الفر والحجل، مما يهدد وجودهما في قطاع غزة،، إذ يمكن مشاهدة مئات الأمتار من الشباك ذات اللون المخفي على ساحل قطاع غزة ينصبها الصيادون لصيد طائر السمان المهاجر، الذي لم يعد يأمن شاطئ غزة للاستراحة خلال رحلته من أوروبا إلى افريقيا، أما الحجل والمعروف بالشنار فإنه منذ 10 أعوام بدأ بالانقراض بعد صيده وملاحقته بشكلٍ كبير.
بالعودة إلى الحدود الشرقية فلم يكن الصياد أبو وردة وحده من يمارس "الصيد الجائر"، إذ تواجد عشرات الصيادين الذين يقضون وقتهم في تربص الطيور وقلب شباكهم على من يقع فريسة لها، خلال موسم يطلق عليه "البلدي" الذي يستمر من شهر مايو حتى ديسمبر وفيه يكثر طائر الحسون، وفي الشتاء يأتي موسم "الجردي" ويصطاد به طائر الخضرة والحمرية وغيرها.
معظم ممارسي "الصيد الجائر" الذين التقاهم معد التحقيق، كان الدافع الأساسي من مجيئهم "، البطالة التي يعيشونها خلال سنوات الحصار، وبحثهم عما يسد رمق أسرهم حتى لو كان على حساب الطيور التي أجمع الصيادون أنها تتلاشى عاماً بعد عام نتيجة ملاحقتها بشكلٍ كبير من قبل المئات على طول الشريط الحدودي لقطاع غزة.
بإحكام ينصب الحاج يوسف السلطان شباك صيد ذات لون تصعب رؤيته بسهولة، قرب شاطئ بحر شمال قطاع غزة، مستهدفاً صيد "السمان".
يكشف السلطان الذي يحترف الصيد منذ ما يزيد عن 50 عاماً "للرسالة"، أن هذا الطائر مع مرور الأعوام بدأ بالاختفاء، وبالكاد يستطيع اصطياد 4 طيور منه بعد أن كان يصطاد ما يزيد عن 200 طير قبل 20 عاماً وبقي العدد في الانخفاض مع مرور الأعوام، مرجعا السبب في انقراضه إلى الانتشار الواسع للشباك.
أما سوق اليرموك بمدينة غزة الذي ينشط كل يوم جمعة، فكان له النصيب الأكبر من تجمع صيادي الطيور الذين يبيعونها للمواطنين بأسعار متفاوتة، ويوضح الصياد محمد أبو عربية أنه ينتقل ما بين الحدود الشرقية بشكلٍ يومي ليصطاد طائر الحسون البري، الذي يزيد ثمنه عن 150 شيكل، وعلى الرغم من إدراكه بأن مهنته تهدد الوجود البيئي للطيور إلا أنه يطالب بتوفير فرصة عمل له حتى يتوقف عن ممارستها.
وفي جولة لمعد التحقيق داخل "اليرموك"، صباح الجمعة الماضي، اكتظ عشرات المواطنين بين تجار الطيور من أجل شرائها، وبعد الأسئلة التي وجهها على المشترين تبين أن الاهتمام بشرائها كان لهدفين، الأول يقوم بتربيتها كهواية فقط، والقسم الثاني بهدف الإتجار بها بعد تهيئة المناخ اللازم لعمية تكاثرها.
داخل كيس ورقي وضع المواطن العبد حبيب طائري حسون ذهبي بعد شرائهما من أحد الصيادين بمبلغ 300 شيكل، ويقول "إنه يقوم بتربية هذا الطائر منذ ما يزيد عن 15 عاماً، حيث يجيد تهيئة الظروف المناسبة لاستمرار بقائه وتكاثره داخل قصف كبير تتوسطه عروق شجرة كبيرة" مضيفاً أنه انتقل من الهواية في تربيته إلى التجارة به بهدف تحسين وضعه المعيشي".
أما طائر الحجل الذي لا يتجاوز حجمه حجم الدجاجة فقط كان الحاضر الغائب داخل سوق "اليرموك"، فلم يعرض منه سوى زوج واحد فقط بمبلغ 250 شيكل، وتذرع من قام بعرضه بأن صيده كان بصعوبة بالغة بعد انقراضه من قطاع غزة، مبيناً أن من يقوم بشرائه يكون بغرض تربيته داخل الحدائق الواسعة أو طهوه لما يتمتع به من مذاق مميز.
القانون والفقر
بدروه يرجع بهاء الدين الأغا مدير عام حماية البيئة في سلطة جودة البيئة، سبب انقراض أعداد كبيرة من الطيور في قطاع غزة، إلى سببين رئيسيين، وهما: "الصيد الجائر" الذي يمارسه عشرات الصيادين نتيجة الفقر وقلة فرص العمل، و"فقد المساحات الخضراء" نتيجة قص الأشجار لبناء مشاريع سكانية ما جعل الطيور تبحث عن مناطق بعيدة وملائمة للعيش الدائم.
أما فيما يتعلق بالقانون الفلسطيني فيؤكد الأغا "للرسالة"، عدم وجود لوائح تنفيذية قانونية للصيد إلى جانب غياب الرقابة بشكلٍ كامل على الصيادين نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها قطاع غزة، ما تسبب باختفاء أصناف كثيرة من الطيور من القطاع.
سلطة البيئة: غياب القانون والفقر يحولان دون تنظيم الصيد ومنعه بطريقة تهدد تنوع الطيور
ويوضح أن سلطة البيئة تسعى للمحافظة على تنوع الطيور في قطاع غزة قدر الإمكان من خلال المسابقات التي تقيمها على مستوى البلديات المهتمة برفع مستوى التشجير وذلك لتشجيع زيادة كميات المساحات الخضراء بجميع المناطق والتي من شأنها توفير مساكن للطيور المختفية في أحياء قطاع غزة مثل الحمام البري والحساسين. إلا أن "الصيد الجائر" يصعب السيطرة عليه بسبب الظروف المعقدة التي يشهدها القطاع-وفقاً للأغا.
وخلال بحث معد التحقيق في القانون الفلسطيني الذي أقره المجلس التشريعي عام 1999، فتبين أنه لم يحدد أي لوائح تنفيذية وقضائية، ولم يتطرق إلى مشكلة الصيد بشكلٍ تفصيلي، ما جعل التهديد لثروات غزة الطبيعية أمراً مستباحًا للجميع في ظل غياب القانون.
طيور نادرة
وبالعودة إلى عبد ربه الخبير في علوم البيئة، فيؤكد أن مشكلة "الصيد الجائر" طالت عددا من الطيور المهددة بالانقراض، مثل "طائر الياسمينة" ذي اللون الأسود، والذي أتى للبيئية الفلسطينية قبل 15 عاماً، وقد شوهد مؤخراً يباع داخل الأسواق خاصة "اليرموك"، كما أن عددا كبيرا من المواطنين يصطاد الطيور الجارحة كالصقور والنسور ذات الأعداد المحدودة ومنها مهدد عالمياً بالانقراض ما يهدد وجودها بشكلٍ قاطع في البيئة الفلسطينية.
خبير بيئة: ممارسة الصيد الجائر تسبب في اختفاء عشرات أنواع الطيور في غزة
ويبين عبد ربه، أن القوانين الفلسطينية المختصة بتنظيم الصيد غائبة تماماً في قطاع غزة، وحتى لو سنت هذه القوانين فإن سلطة البيئية غير مؤهلة في هذه المرحلة لمعرفة ما هي أنواع الطيور المهددة والغير مهددة نتيجة قلة الاهتمام في هذا الجانب.
رغم الظروف الصعبة التي يعيشها القطاع، إلا أن تنظيم الصيد ومواعيده، ومعرفة أين ومتى وكيف تتم طريقة الصيد، تعتبر من الحاجات الضرورية لحماية أعداد كبيرة من الطيور من الانقراض الكامل، وهذه المسؤولية ملقاة على وزارة الزراعة وسلطة جودة البيئية في قطاع غزة اللتين تحددا المعايير اللازمة للصيد.
وبحسب عماد الأطرش رئيس جمعية الحياة البرية، الذي نشر عام 2014 إحصائية أفادت بوجود ما يقارب520 نوعاً من الطيور تنتمي لنحو 206 أجناس، وما يزيد على 65 عائلة ونحو 21 رتبة في البيئة الفلسطينية، يهدد "الصيد الجائر" بانقراض صنف واحد منها كل 20 سنة.
حلول متعطلة
من جانبه يؤكد حسن عزام، مدير عام الخدمات البيطرية في وزارة الزراعة، أن وزارته بذلت مساعي حثيثة للمحافظة على الطيور المهددة بالانقراض وعلى البيئة الحيوانية التي تشهد تراجعاً كبيراً في القطاع، كان أهمها توفير محميات طبيعية للحيوانات البرية، إلا أن الإمكانيات الكبيرة التي تحتاجها خصوصاً في التمويل حالت دون إقامتها، مبيناً أنهم بانتظار أي فرصة لتنفيذ هذا المشروع المهم للبيئة.
صياد: مهنتي تقضي على تنوع الطيور إلا أن البطالة تجبرني على الاستمرار بممارستها
ويوضح عزام في حديثه مع "الرسالة" أن واقع الطيور في قطاع غزة يعيش تدهورًا كبيرًا، نتيجة الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة، إذ يعتبر الصيد الجائر الذي يمارسه الفقراء سبباً اساسياً في اختفائها، تزامن مع التوسع العمراني على حساب الأشجار، كما أن ممارسات الاحتلال "الإسرائيلي" من تجريف للأراضي الزراعية والأشجار على الحدود الشرقية أدى إلى هجرتها من القطاع.
ويشير إلى تقصير وزارة الزراعة في تنظيم عملية صيد الطيور في قطاع غزة، سواء كان من خلال تقنين ممارسات الصيد الجائر، أو تنظيم مواعيد الصيد خلال فترات التكاثر، سوى أن وزارته تمنع استيراد المواد المخدرة المستخدمة في اصطياد كميات كبيرة من الطيور، وأضاف أن عدم الاهتمام بالطيور وتنظيم صيدها أسهب في اختفاء عدد كبير منها، حتى أن الطيور المهاجرة الموسمية مثل السمان قد اختفت بشكلٍ كبير جداً نتيجة عدم توافر البيئة الأمنة والمناسبة لها.
وينذر معد التحقيق الصحفي بخطورة إهمال الجهات المسؤولة قضية "الصيد الجائر" وعدم الاهتمام بالمحافظة على تنوع الطيور في قطاع غزة، إذ باتت أصناف عديدة منها مهددة بالانقراض التام، نتيجة عدم إيجاد أي بدائل وحلول من قبل وزارة الزراعة وسلطة البيئة، أبرزها إقامة محميات طبيعية أو المحافظة على المحميات الموجودة في القطاع، ومنع الصيد فيها وإبعاد مصادر التلوث عنها وأبرزها محمية وادي غزة.