بملئي فيه يُقدس رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس التنسيق الأمني مع الاحتلال في عبارته الشهيرة "التنسيق الأمني مقدس، وسيبقى مقدس"، والتي تفوه بها على الملأ في رسالة واضحة بأن التعاون الأمني مع الاحتلال خطا أحمرا لا يمكن التراجع عنه؛ رغم حالة الرفض الشعبي والجماهيري والوطني له.
وبعد مُضي "ربع قرن" على اتفاق أوسلو المشؤوم والذي كان عباس من أهم مهندسيه وأنشئت السلطة الفلسطينية مكبلة بالتزامات أمنية وسياسية واقتصادية، فإنه يمكن القول إن التنسيق الأمني بات في أوج مراحل وتعاظمه؛ رغم الإعلان المتكرر من قيادة السلطة عن وقفه تارة بسبب عدم إيفاء "إسرائيل" بالتزاماتها، وتارة أخرى بسبب إعلان ترمب الأخير، إلا أن كل ذلك لم يجد له رصيدا على الأرض.
ويدلل على ذلك ما كشفه عباس نفسه، خلال لقاء أعضاء حركة السلام وأعضاء الكنيست "الإسرائيلي"، في مقر المقاطعة برام الله، قبل أيام، بأن الأجهزة الأمنية تحافظ على التنسيق الأمني بشكلٍ يومي مع المؤسسة الأمنية للاحتلال.
وأكد عباس أنه التقى مع رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك)، "نداف أرغمان"، لمناقشة قضايا التنسيق الأمني، مشدداً القول "فيما يتعلق بالملف الأمني فإننا متوافقان على 99% من القضايا".
ورغم التوصيات التي صدرت عن الاجتماع قبل الأخير للمجلس المركزي الفلسطيني في 15 يناير الماضي، الذي جدد فيه قرارا سابقا اتخذه في دورة عام 2015، بوقف التنسيق الأمني بأشكاله كافة مع الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن واقع الأمر غير ذلك.
ومعنى التنسيق الأمني وفقا لاتفاقية طابا عام 1995، فقد نصت على أن السلطة الفلسطينية مسؤولة عن منع الإرهاب والإرهابيين واتخاذ الإجراءات المناسبة بحقهم، ما يعني اعتقال من يشتبه برغبته ونيته مهاجمة الاحتلال وعلى زجه في السجون من دون محاكمة، ومنع العمليات ضد الإسرائيليين.
وعلى أساس الاتفاق الأمني، فإن "إسرائيل" والسلطة تتبادلان المعلومات حول أعمال خلايا حماس ومنظمات أخرى. وتتقاسمان الأدوار في معالجة الاحداث الجنائية، وتنسقان العمل عند المظاهرات والمواجهات، وذلك من أجل الاستمرار في السيطرة على الوضع.
**ركن أساسي
وتشير دراسة صادرة عن معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية – في ديسمبر 2017 أن التنسيق الأمني هو جزء هام من الهيكل الأمني الفلسطيني الذي يضم 80 ألف فرد وهو ما يساوي 44% من مجموع موظفي السلطة من العسكريين والمدنيين، وأن هذا الجهاز يستحوذ على 40% من ميزانية السلطة، وهو ما يتفوق على مجموع النفقات على التعليم والصحة.
وتشير الدراسة إلى أن التنسيق ساهم في إجهاض 40% من الهجمات التي كانت مخططة لضرب الاحتلال، وأن هذه النسبة ترتفع في لحظات التوتر مع الاحتلال كما حدث خلال شهرين من نهاية 2015 وبداية 2016 حيث نجح التنسيق الأمني الفلسطيني في إجهاض 200 هجوم محتمل، واعتقال الخلايا التي خططت لهذه الهجمات، ومجموع أفرادها حوالي 100 عنصر.
لكن الدراسة الأوروبية تلفت الانتباه لظاهرة معاكسة وهي ارتفاع نسبة الجرائم المدنية في المجتمع الفلسطيني من ناحية، وارتفاع نسبة هجمات المستوطنين على الأفراد والممتلكات الفلسطينية بنسبة 33% خلال الفترة من 2014 الى نهاية 2017، أي أن التنسيق الأمني يخدم طرفا (إسرائيل) ويضر الطرف الآخر(الفلسطيني)، والغريب أن الدراسة الأوروبية تشير إلى أن 85% من هجمات المستوطنين على الفلسطينيين وممتلكاتهم لم يتم الكشف عنها أو انتهت بتقييدها ضد مجهول.
وخلال عام 2017 قامت أجهزة السلطة – على خلفية أمنية-باعتقال وتعذيب وحجز إداري دون محاكمة لـ2363 فلسطينيا (ألفان وثلاثمائة وثلاث وستين) طبقا لهيئة حقوق الإنسان الأورومتوسطية، ويشير التقرير الأوروبي إلى أن استطلاعه للرأي أوضح أن 81% من فلسطينيي الضفة الغربية يعتقدون أن السلطة " فاسدة أخلاقيا وماليا".
ويشير التقرير الأوروبي إلى أن اجتماعات التنسيق الأمني لا تتوقف، ولكنها في الظروف المضطربة تتحول لاجتماعات سرية، وكان آخر هذه الاجتماعات نهاية العام 2017 والذي جرى الاتفاق فيه على "تيسير دخول الأمن الإسرائيلي لمنطقة "أ" التي من المفروض أنها خاضعة كليا للسلطة الفلسطينية، وكذلك أن يتم تسهيل دخول الجيش الإسرائيلي للمنطقة "ا" في أي وقت ترى فيه "إسرائيل" أن هناك خطرا أمنيا معينا من أحد الخلايا، وتم الاتفاق على أن يتم تطبيق ذلك أولا في أريحا ورام الله.
*ذروة الجاسوسية
ويعتقد د. عبد الستار قاسم أستاذ العلوم السياسية بجامعة النجاح الوطنية بنابلس، أن استمرار السلطة في التنسيق والتعاون الأمني مع الاحتلال يعتبر إصرارا على الخيانة، ومخالفة التوجه الوطني.
ويضيف قاسم في حديثه لـ"الرسالة" أن العلاقة الأمنية مع الاحتلال لا يوجد مهادنة فيها أو تجميل لها، كون أن القانون الثوري لمنظمة التحرير الفلسطينية ينص على أن من يتخابر مع "إسرائيل" عقوبته الإعدام رميا بالرصاص.
ويوضح أنه وفق هذا التنسيق فإن أجهزة السلطة تعمل بشكل علني لخدمة الاحتلال الإسرائيلي والحفاظ على أمنه دون الحصول على أي مقابل لذلك باستثناء المصالح الشخصية.
ويتابع " المقابل فقط هو لأشخاص السلطة الذين استفادوا بشكل شخصي من التنسيق وهو ما يدفعهم للمحافظة عليه وتعزيزهم وعدم الاستجابة للمطالبة بوقفه، والشعب الفلسطيني يدفع ثمن رفاهية هؤلاء الفاسدين".
ويشير إلى أنه بعد 25 عاما من اتفاق أوسلو يجب أن تتولد لدينا قناعة بأن السلطة عبارة عن شركة لبعض المستثمرين الذين ينهبون أموال الشعب الفلسطيني.
مراحل متقدمة
ويرى الكاتب والمحلل السياسي إبراهيم المدهون أن السلطة لا تلتزم بقرارات المنظمة أو القرارات والنداءات الوطنية الداعية لوقف التنسيق الأمني، معتبراً أن ما جرى عمل مشبوه ومريب، ولا يحظى بأي دعم شرعي ووطني.
ويؤكد المدهون لـ"الرسالة" أن الواقع الأمني بالضفة بالكامل أصبح تحت السيادة والسيطرة الإسرائيلية وهناك تجاوز واضح ويتم التعامل مباشرة ما بين قوات الامن الإسرائيلي والفلسطيني.
ويشدد على أن التنسيق وصل مراحل متقدمة وخطيرة وبات حالة تكامل والتعاون وتبادل الخبرات والأدوار وصولا إلى التدريب المشترك والفعال، وهو ما يعكس واقع جديد بأن هذا الأمر سيكون عنوان المرحلة المقبلة.
ويلفت إلى أن تصريحات عباس السابقة حول لقائه مع رئيس يشير إلى حالة الانفصال ما بين التوجه السياسي لدى قيادة السلطة والواقع على الأرض في الضفة والذي من الصعب جدا تجاوزه إلا بقرارات جريئة.