مقاومة قوية، عقل سياسي منفتح، ووسطية معتدلة
أشكركم على اختيار هذا الموضوع عن وثيقة حركة حماس السياسية عام 2017، ولا شك أن الذين تحدثوا في العرض المرئي لقناتكم المحترمة "الجزيرة" حول الوثيقة من الإخوة الفلسطينيين والعرب لهم كل التقدير والشكر وما أدلوا به، أعتقد أن مجمل ما طرحوه كان متوازناً وكان قريبا مما أرادته الحركة وقيادتها.
أدبيات جديدة
البعض يعتقد أن هذه الوثيقة هي تخلي عن الماضي والميثاق، والبعض قال إنه في ضوء التطورات الأخيرة وما بعد الربيع العربي والثورات المضادة، وغيرها، في الحقيقة هذه تقديرات في اعتقادي خاطئة، نحن في قيادة حماس نعرف ما الذي فعلناه، وباختصار، حماس انطلقت عام 87 وبعد عام في 88 شهر أغسطس أعلنت الحركة عن ميثاقها، وبعد 29 عاماً في مايو 2017 أعلنت عن الوثيقة، واعتبرنا أن هذا تاريخ طويل ووقت طويل؛ يوجب علينا في حماس أن نقدم أدبيات جديدة، وكانت هناك اقتراحات مبكرة عند قيادة الحركة، والعبد الفقير أخوكم خالد مشعل كنت من مؤسسين الحركة وعضو في قيادتها من الأيام الأولى، ورغم وجود ملاحظات عن الميثاق الذي عبر عن مرحلة؛ قلنا لا يمكن أن نقدم نموذجاً خاطئاً كما قدم غيرنا استسهالاً في تغيير المواثيق، وخاصة أن ميثاق حماس الأول كان في أغسطس عام 88 ، وبعدها في شهر 11 نوفمبر من عام 1988 كان الموقف الجديد لمنظمة التحرير في مجلسها الوطني آنذاك والتي قدمت مقاربة سياسية جديدة وبدأت تغييراً لتاريخها ومواثيقها القديمة.
نضوج الوعي والتطور السياسي
حماس تعلمت الدرس، وينبغي أن نقدم احتراماً حقيقياً لمبادئنا وتاريخنا، وأي تطور تأتي مع المسيرة نعبر عنه بأدبيات جديدة وليس انقلاباً، وتذكرون المشهد السريالي الذي حدث في غزة عندما حضر كلينتون وجرى تعديل في بعض نصوص الميثاق لمنظمة التحرير وكانت صورة لا تليق بتضحيات الشعب الفلسطيني.
دائماً ظروف البدايات مختلفة، وحركة انطلقت وبدأت تعبر عن شخصيتها وعن ملامح برنامجها وتأكيد البرنامج النضالي وانخراطها في العمل الجهادي والانتفاضة والعمليات الجهادية وتعبيرها السياسي، وهذا هو التطور الطبيعي وتأتي الوثيقة اليوم في عام 2017 لتعبر عن مرحلة وعن تراكم النضج والوعي والتطور في أداء حماس السياسي وليس تخلياً عن الماضي، وكل مرحلة لها مواثيقها وأدبياتها وهكذا حماس تحترم فكرها وعقلها ومبادئها.
والبعض قال إنه بعد أحداث الربيع العربي والانقلاب على هذا الربيع، أن حماس اضطرت!، أنا أتساءل اضطرت في ماذا ؟، هل في البند العشرين في الوثيقة السياسية التي تتحدث فيه عن حدود 67 ، وكما عبر عنه الدكتور عبد الستار قاسم أستاذ العلوم السياسية هو ليس برنامج حماس، وإنما تقاطع مع البرامج الفلسطينية والعربية ونلتقي على موائد مشتركة، وإن حصل هذا فنحن لا نتعرض عليه، ولكن دون الاعتراف بالاحتلال والتخلي عن ثوابتنا، وكل ذلك عبرنا عنه في حوار القاهرة عام 2005 وعبرنا عنه بشكل صريح في وثيقة الوفاق الوطني عام 2006 التي نتجت عن مبادرة الإخوة الأسرى في السجون "فرج الله كربهم" ورحم الله الشهداء ونصر المجاهدين، ثم ذُكر هذا في برنامج حكومة حماس الأولى بعد فوزها عام 2006 وبعد اتفاق مكة حكومة الوحدة الوطنية عام 2007، وكل ذلك حدث قبل أحداث الربيع العربي.
رسالة لحماس والعالم العربي والغربي
حماس تطور فكرها السياسي كنوع مع التفاعل بالواقع، وحماس عبرت عن تطورها وفكرها السياسي بهذه الوثيقة، والسؤال لماذا بعد 29 عاماً، نحن عبرنا عن مواقف في مواثيق مثل وثيقة الوفاق الوطني، ومؤتمرات صحفية، وفي أدائنا السياسي، وبعضها كانت قرارات في مجلس الشورى للحركة، واجتمعنا بعد فوزنا في الانتخابات وأصدرنا مجموعة من القرارات والسياسات تعبر عن تلك المرحلة، والبعض قال حاول أن يرجعنا إلى الميثاق، ويرجعنا إلى ما يفعله الإعلام الصهيوني في محاولة التصيد بالمياه العكرة.
ونحن اليوم نقول لشبابنا في الحركة، هذه هي رؤية حماس، ونقول لشركائنا في الساحة الفلسطينية وخاصة الإخوة في حركة فتح وبقية الفصائل وإلى العالم العربي والإسلامي وللعالم الدولي، هذه حماس وهذه هي وثيقتها السياسية والتي تعبر عن تراكم النضج والتطور في الفكر السياسي خلال 30 عاماً وليس بتصيدات الإعلام الصهيوني وغيره.
متمسكون "بالثوابت والحقوق والمبادئ"
هذه الوثيقة لم تحمل تناقضات، ونحترم جميع الآراء المعبرة والمتحدثة عنها، وهذا انتاج بشري ولا نقول أن هذا نص معجز أو مقدس، هذا هو اجتهادنا، وفي موضوع البند العشرين كيف نقبل بحدود 67 دون أن نعترف "بإسرائيل"، ونقول من هنا أن برنامجنا هو مقاومة الاحتلال وتحرير فلسطين كل فلسطين، واستعادة الأرض والمقدسات والقدس والحقوق هذا هو برنامجنا، الآن في الطريق لدينا شركاء في الوطن بل شركاء في الأمة العربية والإسلامية، وحماس لاعب كبير وأساسي، وحماس من إبداعها ومن واقعيتها المنضبطة بالثوابت والحقوق والمبادئ، اشتقت هذه الصيغة.
والموقف العربي الرسمي والموقف الفلسطيني الرسمي كذلك يقول نريد دولة على حدود 67 بالمفاوضات، ونحن نعتقد "استحالة ذلك" لأن "إسرائيل" لا يمكن أن تعطينا السيادة على الأرض ودولة حقيقية إلا أن تجبر إجباراً على الرحيل وكما فعلنا ذلك في غزة الصمود، ولكن قلنا لهم إذا كنتم أنتم تعتقدون ذلك، قلنا لهم نحن نوافق على دولة بحدود 67 وهذا لا يتم إلا بالنضال والتضحيات، ولكن إن حصل ذلك نحن قولاً واحداً لا نقبل التنازل عن شبر واحد من أرض فلسطين ولا عن بقيتها ولا الاعتراف بالاحتلال الإسرائيلي.
ولو كانت هذه الوثيقة موجه للإسرائيليين أو للغرب كما يزعم البعض، وأننا نريد رضاهم علينا؛ لما قيدنا موقفنا في موضوع 67 بالقيود الواضحة المنصوص عليها في بند عشرين وبقية البنود للحركة؛ لكننا فعلنا ذلك من أجل تسهيل التوافق الفلسطيني، ورأينا أنه لا بد أن نقترب من بعضنا البعض بقواسم مشتركة وأن نخوض النضال معا، وأن نعمل معاً، ومنذ أن فوزنا بالانتخابات وحدث الانقسام المشؤوم، أردنا أن تكون هذه أرضية لإنجاز المصالحة وترتيب البيت الفلسطيني الداخلي.
حماس تنظيم فلسطيني
وماذا عن الإخوان في الوثيقة؟ أقولها أن حماس ليس جناحاً من الحركة الإخوانية العالمية والذي يريد البعض أن يضخمها، وجماعة الإخوان في فلسطين تأسست عام 45 و46 كما نشأ الإخوان في ساحات عديدة، وعام 1987 أصبح هؤلاء الإخوان اسمهم حركة المقاومة الإسلامية حماس، ونحن لا نتنكر لتاريخنا، تاريخنا إخوان مسلمون؛ ولكن نحن اليوم حركة حماس وهي حركة وطنية إسلامية نضالية، ونحن حركة فلسطينية مستقلة قرارها ينبع من قيادتها الداخلية والشورية، والبعض قال لنا بعد أحداث مصر وقال لي "يا أخ أبا الوليد" لماذا لا تصدرون موقفاً تتنصلون فيه من تبعيتكم للإخوان، قلت له" أولاً نحن لسنا تبعاً للإخوان ، نحن جذرونا إخوان؛ ولكننا مستقلون في قراراتنا، وليس من المروءة والرجولة أن يبتلى إخوان مسلمين وغير مسلمين ونتنكر ذلك، هذه ليس برجولة ودفعنا أيضاً ثمن لذلك، ونحن أصحاب قيم ومبادئ.
وعندما أتينا إلى الوثيقة في العام الماضي، وجدنا أنه ليس من المانع أن نكرر مسألة علاقتنا بالإخوان، وهي العلاقة الفكرية والتاريخية للإخوان موجودة ولم تتغير، وحتى عندما تأسسنا وحتى الآن لم ولن نتغير، نحن تنظيم فلسطيني وطني إسلامي مستقل، وقراره عند قيادته وليس تبعاً لأحد.
النضج والتوازن
وبعد عام من إصدار هذه الوثيقة، هذا إنجاز أننا ترجمنا تطورنا المتسلسل المتراكم في فكرنا وأدائنا السياسي، وهو تتطور قدمنا فيه نموذج، وكيف تتطور دون أن تتخلى عن الثوابت، وكيف تتفاعل مع الواقع الذي تعيش فيه، وهو التفاعل الصحي الطبيعي للمبادئ والأفكار مع الواقع والمتغيرات؛ تفاعلاً متوازناً لا تخضع للواقع ولا تتجافى عنه وتتجاهله، وحماس تفاعلت تفاعلاً إيجابياً ونضجت فيه، وأصبحت خبراتها أكبر وشخصيتها أقوى من ذي قبل، وعندما نأتي إلى وثيقة تعبر عن كل ذلك "النضج والتوازن"، هذا هو الإنجاز، والأمر الثاني كما قلت هو رسالة إلى أبناء الحركة هذه هي حركتكم وهذا هو فكركم ويدرس في أوساط الحركة، ومن ثم إلى الإخوة في حركة فتح أن هذه هي أفكار حماس هذا هو تعريف وشخصية إخوانكم في حماس، وتعالوا نلتقي على قواسم مشتركة وكذلك مع العالم العربي، أما المجتمع الدولي لو أردنا كسبه وأقصر طريق للكسب لوافقنا على شروط الرباعية ولكنا اليوم نجلس في البيت الأبيض.
لا لشروط الرباعية وشرعيتنا من أمرين!
والناس يحاكموننا على تجارب غيرنا، وهذا صحيح وبنفس الوقت مزعج، وما يطمئن القلب والعقل أننا لا نبالي لتشكيكات الآخرين، ولو أرادت حماس أن تجامل الغرب كما يعتقد البعض لقبلت بشروط الرباعية، لكنا على طاولة المفاوضات في واشطن ولرأيتم حماس تجول وتصول في العواصم الأوروبية؛ ونحن لا نتفاوض سراً، كل شيء في حماس موضوع على الطاولة وأعلنا في الماضي وفي الحاضر أننا تفاوضنا بطرق غير مباشرة مع الاحتلال الصهيوني عبر وسطاء عرب وغير عرب في موضوع تبادل الأسرى وهو عالمكشوف، وأقول لكم أن زعيم غربي عرض عليه قبل أكثر من 10 سنوات لماذا لا تلتقون بنائب رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك "أولمرت" وقال لي هذا يعطيكم شرعية، ولكنني قلت له "التفاوض مع الأعداء ليس حراماً" ولكن سياستنا اليوم ألا تفاوض مع الاحتلال، ولأسباب كثيرة لها علاقة بإدارة الصراع، والشرعية التي يتحدثون عنها لا نكتسبها من الإسرائيليين ولا نكتسبها من المجتمع الدولي، وإنما نكتسب الشرعية من أمرين وهما "صناديق الاقتراع" وهذا ما حققته حماس في الانتخابات، ومن النضال والمقاومة، والذي يقود شعبه مع الآخرين في النضال ضد المحتل، هو الذي يكتسب الشرعية.
حماس لن تسعى لاسترضاء أحد، ولو استجبنا لمطالب الآخرين، لتغير حالنا، ومعقول أن حماس الذي يتهمها البعض أننا تنازلنا عن ثوابتنا، وبعد ذلك تقوم "إسرائيل" بثلاث حروب قاسية ضدنا في قطاع غزة! "وإسرائيل" تحاصرنا منذ أكثر من 12 عاماً في غزة.
لم ولن نعترف "بإسرائيل"
والبعض يقول "هناك فتح قنوات للتواصل في التهدئة"، أقولها أنه في السياسة وإدارة الصراع الذي يفقد نفسه أوراق القوة يفاوض " على رأس المال، وعلى المبادئ والثوابت، وللأسف بعض شركائنا في الوطن لأنهم تخلوا عن أوراق القوة ولذلك أصبح عندهم الموضوع صعب، وهناك تنسيق أمني علني مع الاحتلال، نسأل الله أن يصلحهم ويكون هناك توافقاً فلسطينياً حول قضيتنا وأرضنا.
ولكن انظروا إلى حماس، لم ولن تتخلى عن بند واحد "لم ولن تعترف بإسرائيل" عن تتخلى عن المقاومة، بل راكمت المقاومة كما في غزة العزة، والذي جعل فرصة للتفاوض لأننا أبداعنا في اشتقاق أوراق قوة احترافية، واليوم مسيرات العودة وهي مسيرات سلمية، ضغطت على الاحتلال، وثم البالونات الحارقة وعندما نصنع أوراق قوة جديدة نصبح هذه مدخلة للضغط ويكون التفاوض على أساسها وليس على أساس المبادئ.
المصالحة تقوينا أمام العدو
بخصوص المصالحة، بالتأكيد إدارة القرار السياسي الفلسطيني الأصل أن تكون منطلقة من موقف وطني فلسطيني موحد، وبالتالي إنجاز المصالحة ضرورة وهذا يقوينا في إدارة الصراع السياسي من ناحية إدارة الصراع الميداني والمقاومة من ناحية أخرى، وللأسف منذ عام 2007 نعاني من الانقسام ولا أريد العودة إلى الوراء، خضنا محاولات عديدة في القاهرة 2011 وفي الدوحة عام 2012 وفي مكة قبل ذلك عام 2007 وأيضاً في غزة بمخيم الشاطئ عام 2014 وحماس قدمت كل ما يلزم ، وفي السنوات الأخيرة أشهد أن إخواني في قيادة الحركة السابقة والحالية وخاصة في قطاع غزة قاموا بخطوات كبيرة، ولكن الإخوة في رام الله لم يلتقوا الفرصة، وبالتالي نحن مع المصالحة؛ ولكن هل نبقي على غزة تحت العقوبات والحصار والمعاناة.
لا لصفقة القرن قولاً قاطعاً
والتهدئة باعتقادي لم تنهار؛ ولكن هناك محاولة لربط المصالحة بالتهدئة، وللأسف في الجولات الأخيرة وموقف الإخوة في رام الله تدلل على انسداد كامل، ونريد الآن وغداً وفي أسرع وقت أن ترفع العقوبات عن غزة وأن ننهي حصارها من خلال تفاوض غير مباشر ليس بثمن سياسي، ونحن ضد صفقة القرن قولاً قاطعاً وبدون تقديم أي تنازل فكري أو سياسي، ولكن من خلال مسألة التهدئة، هذا الذي يجري اليوم.
وخطابي إلى إخواني في رام الله، وأعلم أن القيادة الفلسطينية ضد صفقة القرن، ولكن هم يرتكبون خطأين فادحين، الخطأ الأول عندما يعاقبون غزة بذلك يعطونا فرصة لإسرائيل وللأمريكان ولمن يريد أن يلج من خلال قصة التهدئة في غزة كأمل أن يذهب إلى صفقة القرن؛ ولكن وعي حماس وقيادتها والشعب الفلسطيني لا يمكن أن يسمحوا بذلك.
الأمر الثاني أن هناك حصار لرام الله واليوم أعلنت واشنطن عن إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، والقيادة الفلسطينية لا تفعل شيئاً، عليها أن تنهي العقوبات فوراً على غزة، وأن يتصرف القائد الفلسطيني كزعيم لكل الفلسطينيين ويحتضن غزة الجريحة وعند ذلك نصبح قادرين على قلب الطاولة على صفقة القرن.
*مقاومة قوية وسياسي منفتح
وثيقة حماس عام 2017 ليس تغييراً استراتيجياً ولا تكتيكياً والتكتيكي يفهم منه مخادعة للآخرين، وإظهار شيء واستبطان شيء آخر، وحماس لا تغير، وحماس في وثيقتها 42 مادة قلنا كل شيء هذه هي مبادئنا وثوابتنا لا تغيير عليها، ونتعاطى مع وضعنا الفلسطيني والعربي والإقليمي والدولي بعقل مفتوح، هذا هو إبداع حماس؛ وهو التطور الطبيعي الناضج المبني على التوازن.
والموروث السياسي المعاصر للأسف قدم لنا نماذج رديئة، إما مقاومة وإما سياسة، أنا أتساءل من قال ذلك! وإنما المقاومة والسياسة كيف تكون صلبة وتكون في ذات الأخر مرنة؛ ومن هنا نريد الاستمرار في ميدان المقاومة وأن نبدع في المرونة والوعي والتطور والنضج السياسي وهي مدرسة حماس، مقاومة قوية، عقل سياسي منفتح، ووسطية معتدلة.