كان قرص الشمس قد غرب، حين قرر الشهيد العقيد: عبد الرحيم عباس -38 عاماً النأي بنفسه داخل مكتبه بمبنى الجوازات غرب مدينة غزة، ليفكك اخر الألغام التي يعمد الاحتلال الإسرائيلي على تركها في شوارع قطاع غزة ويقضي وقتا طويلا في شوارع القطاع بحثاً عنها قبل تسببها بأذى للمواطنين.
اللغم الأخير لم يكن كباقي الألغام التي فككها الشهيد مساء الأربعاء الماضي، إذ كانت تفاصيله الغامضة خاصة به بعد أن أهدته وسام الشهادة، إثر انفجار عرضي، كتب له نهاية مشواره مع المتفجرات المميتة لينطبق المثل العسكري القائل، المتفجرات لا تعرف الرتب.
لحظات فارقة
كانت لحظات فارقة في منطقة الشهيد حين زف إليها نبأ استشهاده، لتتحول من حالة الهدوء إلى حالة الصخب والحزن، إذ زحف معظم أهالي الحي نحو مرقده بمجمع الشفاء الطبي، على وقع صوت مآذن المساجد التي نعته في مشهد يختزل مكانة الشهيد.
شقيق الشهيد كمال، كان يعرف كما باقي عائلته، أن مهنة أخيه عبد الرحيم، قد تزف إليهم نبأ استشهاده بأي لحظة، إذ نجا من الموت المحقق مرات عديدة بعد انفجار عدد من الأجسام المشبوهة بقربه، كان أحدها في مدينة بيت لاهيا عام 2014، حين قضى ستة شهداء بسبب صاروخ "إسرائيلي" كان الشهيد ضمن طاقم التفكيك إلا انه ابتعد عن المكان لحظة الانفجار.
يقول صاحب الـ 62 عاماً، إن " عائلته لطالما انتابها القلق وهو خارج منزله لحين عودته، إلا أن الإيمان بأهمية عمله في الحفاظ على أرواح الآخرين تستوجب التضحية التي قد تصل إلى فراق الدنيا الأبدي وهذا ما حدث.
صاحب الخلق الرفيع
حين تجولت "الرسالة" في بيت العزاء كانت معالم الحزن واضحة على وجه كل الحاضرين، فلم يقتصر الحزن على عائلة الشهيد التي تعلقت به، بل ونال الأطفال نصيب الأسد من حبه، إذ كان حريصاً دائماً على خلق السعادة التي يخرجها من قلبه الطيب لهم، ولا يفرق بين أطفاله وأطفال اخوانه في مداعبتهم-حسب كمال-.
يحكي مهند الباشا - 22 عاماً، تسببت ابتسامة الشهيد الدائمة وصدق معاملته الطبية في تأسيس صداقة طيبة بيننا، حيث أنه أكثر الزبائن صدقاً وأكثرهم أخلاقاً وخجلاً، وعلى الرغم من مكانته الكبيرة إلا أنه كان متواضعاً طيباً مع الجميع.
كانت مساجد منطقة الصفطاوي قد خصصت جزءًا كبيراً من خطبة الجمعة، للحديث عن مناقب الشهيد المتعددة، واختزل الشيخ ماجد أبو مراد صديق الشهيد عباس صفاته بصاحب الخلق، وكثير التواضع، وملتزم العبادة، وباذل النفس، والزاهد، إذ كان شديد الحرص على إتمام الصلوات في المسجد خصوصاً صلاة الفجر على الرغم من انشغاله التام بحكم طبيعة عمله.
قائد فذ
ورثى إسماعيل رضوان القيادي في حركة حماس، الشهيد عباس، وقال "إن فلسطين قد خسرت واحداً من أبرز رجالها الذين لطالما كرسوا وقتهم لحماية الناس وتفكيك المخاطر التي يتركها حقد الاحتلال لقتلهم".
وبين أن الشهيد قد حمل جينات القيادة وحب العمل منذ انضمامه لحركة حماس، إذ كان قائداً دعوياً محبوباً للجميع، وقائداً عسكرياً في صفوق القسام يمتاز بعقلية فذة تتعامل مع أصعب المتفجرات والأجسام المعقدة، كما كان قائداً لدى وزارة الداخلية منحته مؤهلاته الكبيرة رتبة عقيد.
وتداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي الذين عرفوا الشهيد عن قرب وتأثروا لفراقه، مقاطع فيديو اثناء تفجيره عشرات القذائف من مخلفات الاحتلال، واعطائه محاضرات لكيفية التعامل مع الأجسام المشبوهة والابتعاد عن خطرها.
وولد الشهيد عباس في مخيم الشاطئ عام 1980، متزوج وله خمسة أبناء، وحصل على إجازة في الهندسة المدنية والعلوم الأمنية.