رحل صهيب أبو كاشف، ابن السادسة عشرة، يوم السبت الماضي متأثرا بجراحه، تاركا وراءه حقيبة وكرة وأحلام كثيرة.
بدأ رحلاته الأسبوعية على الحدود مستكشفا لما يدور هناك، يذهب برفقة خالته مرة، وبرفقة امه مرة أخرى، وبرفقة أصدقائه ألف مرة. ثم بدأت أسئلته تزداد، ويعي ما يحدث، ويزداد قناعة يوما بعد يوم بأهمية ذلك، كوسيلة وحيدة متبقية لمطالبة الفلسطيني بحقه، رسالة واحدة يثبتها صهيب كل جمعة، صرخة للعالم يقول بها:" انا موجود" وأطالب بحقي، ولن أبرح مكاني، ولو رحلت سيأتي غيري وسيبقى الحق.
في تلك الجمعة في الثالث من أغسطس ركب صهيب الحافلة متجها إلى الحدود، يجلس بجانب خالته التي تحدثه عن جمال بئر السبع، وعن اقتراب تحقق الحلم بالعودة، فينتشي لما يسمع، ويطلب منها المزيد من الحديث.
ولكنه في سياق حديثه يقاطعها فجأة قائلا:" اليوم سأصاب يا خالتي، هنا، ويشير إلى رقبته، فينقبض قلب الخالة التي تلف وجهها بشاشتها البيضاء المطرزة، وتقول: الله يرجعك سالم يا خالتي!
ولكن هذا ما حدث فعلا، أصيب صهيب في رقبته، ولكن، هل كان صهيب يحمل مدفعا، هل كان يحمل سلاحا، كان يحمل حقيبته التي أغلقها على كرته، وبعض أرغفة يتقاسمها مع رفاقه هناك.
تقول أمه:" لم يكن ابني إرهابيا، لماذا قتلوه؟!!!! بل كان صهيب طفلا بريئا يحب اللعب والكرة، حمل حقيبته وذهب في ذلك اليوم، واخذ معه ساندويتشاته، حضرتها أنا بنفسي، بعد أن اجتمعنا على مائدة الغداء، وأعطيته إياها وقلت: ربما تجوع".
وتكمل: كان يذهب إلى مخيمات العودة ليلعب الكرة هناك، ورغم أنه تعرض للاختناق في الغاز مع اصدقائه عدة مرات، إلا أنه كان يصر على العودة في الجمعة التي تليها، وكان يغضبه كثيرا وقوع أصدقائه مختنقين بالغاز ومرات كثيرة بالرصاص الحي، وفي كل مرة أشعر أن المشهد يوجعه أكثر من المرة السابقة، فيعطيه خبرة ويكبر فجأة ويزداد إيمانا بما يفعل.
وتضيف بحرقة: ولكني لم أتوقع أن يصاب ابني، فهو يلعب في منطقة بعيدة نسبيا عن السياج، يلعب بكرته فحسب، فلماذا يقنصه الجندي في رقبته؟!
وتعقب بعيون يملؤها الدمع والحسرة:" ثم إن مسيرات العودة سلمية، وابني طفل لا يحمل سلاح، ويريد أن يلعب مع أصدقائه هناك، ورغم أني كنت أحاول منعه في بعض الأحيان، إلا أن تأثيره على كان أكبر، وفي كل مرة يقنعني بالذهاب معه قبل أن أقنعه بالبقاء! وكأن شيئا يشده هناك. وحينما نقف على الحدود لنتأمل المشهد أمامنا، يلتفت إلى صهيب ويسألني وين بلادنا يا ماما، فأشير إلى أقرب نقطة بالأفق، فيقول: يالله، كلها خطوة وبنوصل، فأرد عليه: كلها خطوة يا صهيب!
وتسترجع أمه بعضا من الذكريات مبتسمة وتقول:" تأثر صهيب باستشهاد رزان النجار لأنها أسعفته قبل ذلك أكثر من 8 مرات، فحزن على رحيلها حزنا شديدا، وكان دائم التذكر لجرأتها وقوتها وثباتها.
صهيب ابن الأول ثانوي كانت إصابته في الفقرة الثانية والثالثة بالرقبة، ما أدى إلى شلل رباعي وتوقف في عضلات التنفس، وعاش طوال الشهر السابق على جهاز صناعي، وفي محاولة أخيره، تم تحويله لمستشفيات الخليل، في التاسع والعشرين من أغسطس وبقي هناك حتى الثالث عشر من ديسمبر.
ما زالت تتردد كلمات الطبيب المعالج في أذني أمه حينما نظر له نظرة أخيره قبل عودته إلى غزة وقال:" سامحني يا صهيب، مش قادر أعملك أكتر من هيك"!
وتعود أمه لوصف الوجع الذي كان يعيشه ابنها في لحظاته الأخيرة، وتقول:" كان ينظر إلىّ في آخر أيامه وصوته مختنق جراء الإصابة، كنا ننوي تحويله لمستشفيات الداخل المحتل، ولكنه رفض مرددا: أنا أريد الرجوع إلى غزة، وقد كان متلهفا جدا للعودة، ويشير بيده على طول الطريق ثم يسأل: ماما كم ساعة ضايل ونوصل؟!
كان ذلك قبل رحيله بأيام، وبابتسامة موجعه تعود الأم الى الوراء، وتستذكرها قائلة: "قبل رحيله بيوم طلب مني أن اقترب منه ليسمعني فقال: قولي لأصحابي إني سامحتهم كلهم!
وفي يوم السبت ليلا عند حلول الحادية عشر مساء رحل صهيب بعد ان شرب بعضا من الشاي وطلب من أمه أن يأكل، رغم أنه كان ممنوعا من الطعام، فأعطته لقمة من الخبز المغمس بالشاي، وكان سعيدا لاستمتاعه بهذه اللقمة، قبل أن تودعه عائدة إلى البيت.
وفي الحادية عشرة والنصف مساء هاتفتها المستشفى وجاءها صوت من بعيد يقول: الإعلان عن استشهاد المصاب صهيب أبو كاشف.
في الصورة يمكنكم أن تتأملوا وجه صهيب، وعينيه، طفل ككل أطفال العالم، ويمكنكم أن تذهبوا هناك يوما إلى الحدود على بعد خطوتين من بئر السبع، ربما تجدون حقيبته هناك في مكان ما.
حقيبته التي لم تعد معه يوم اصابته، فيها خبأ كرته، وأحلامه البريئة، وربما سترسل لها الأقدار أطفالا آخرين، ليخرجوا منها كرة صهيب، ويعاودوا اللعب، في نفس البقعة، بأحلام أخرى جميلة، ليس الموت واحدا منها.