لعل أبرز ما جاء في خطاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بخصوص جريمة مقتل الكاتب الصحفي السعودي جمال خاشقجي أنه طلب من المسئولين السعوديين في أسفل الهرم إلى أعلاه الإفصاح عن عملية مسرح جريمة مقتله , والكشف عن هوية من أمر بقتله , وهوية المتعاون المحلي الذي استلم الجثة ومكانها بعد أن اعترفوا بعملية القتل , والإفصاح حول المعلومات المؤكدة بخصوص ملابسات هذه الجريمة النكراء , فضلاً عن تسليم المجرمين الموقوفين في السعودية على خلفية الجريمة لتركيا لينالوا جزاء جريمتهم النكراء .
لا شك أن أصداء هذه القضية لن تهدأ في الساحة العربية والإسلامية ولا في الساحة الدولية , فأيٍ كانت نهاية التحقيق لهذه الجريمة البشعة فإنها ستبقى إحدى الأزمات الفارقة في تاريخ الحكم الملكي السعودي , والتي انعكست ظلالها على علاقات المملكة العربية السعودية وحلفائها وخصومها على السواء , والحقيقة أن مناقشة هذه الأزمة وتداعياتها تتصل بلاعبين وأدوار كثيرة متداخلة تم استغلالها لتدخل في إطار المناكفات السياسية , وحسب ما نرى فإن الخطوط والخيوط تزداد يوماً بعد يوم تشابكاً وتعقداً ليس من أجل حل اللغز بل من أجل إخراج السياق الأفضل .
ولعل أهم انعكاسات وارتدادات هذه الجريمة المدوية التي أشغلت العالم هي تطورات موقف الإدارة الأمريكية , والمدى الذي يمكن أن تؤثر به على العلاقة التي تربط واشنطن بالرياض , أو معادلة التغطية والتحفظ على تلك الجريمة النكراء وعدم الكشف والإفصاح عن عمقها وملابساتها مقابل الأهداف الإيجابية المشتركة بينهما , ومجانية النفط للولايات المتحدة الأمريكية , واستقرار المملكة السعودية , وذلك نظراً للاتهامات المباشرة الموجهة لدور وارتباط ولي العهد السعودي محمد بن سلمان فيها من ناحية , وللعلاقة المتميزة التي تربطه بالرئيس الأمريكي رونالد ترامب من ناحية أخرى .
في الحقيقة أن حصر تحالف واشنطن بالرياض على معادلة الأمن مقابل النفط هي صورة فائقة التبسيط لتفسير حيثيات العلاقة بين البلدين , فالأبعاد التاريخية لهذا التحالف منذ تأسيسه عميقة متداخلة مبنية على تبادل المصالح بعد انتهاء كل أزمة مهما كان حجمها وعمقها , فالولايات المتحدة تعرف أنه لا يوجد شريك أفضل من النظام السعودي في المنطقة , وامتداد العلاقات بينهما بتجاوز أي تغيرات في توجهات الرؤساء الأمريكيين أو ولاة العهد السعوديين طالما أن سلالة بني سعود تحكم البلاد السعودية .
المؤكد الذي لا مجال للشك فيه أن من أعطى الأمر بقتل الكاتب الصحفي جمال خاشقجي يندب الآن حظه العائر ونادم على فعلته البشعة ويتمنى لو ترجع عقارب الساعة للوراء , ولكن هيهات فالتاريخ شاهد على تلك الحماقات والجرائم التي تودي بأصحابها ومجرميها وتسقطهم في مستنقعات الخيانة العظمى وهاوية المزابل , وأن غداً لناظره قريب .