استمعنا بقدر كبير من الاهتمام لخطاب رئيس حركة حماس في غزة يحيى السنوار في حفل تأبين شهداء المنطقة الشرقية لمدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، الذين ارتقوا أثناء كشفهم وإفشال تسلل قوة إسرائيلية خاصة في مهمة سرية لم تفصح عنها قيادة الاحتلال، أسفرت عن مقتل قائد القوة وإصابة آخر واستقالة وزير الدفاع.
حمل الخطاب، كما كان مفترضاً، الكثير من رسائل التحدي، ثلاثة من هذه الرسائل نقلها السنوار عن القائد العام لكتائب القسام "محمد الضيف"، أبرزها كان التهديد بأن قصف "تل أبيب" في جولات مقبلة سيفاجئ قيادة الاحتلال. واكتمل مشهد الغَلَبَة بصعود ملثّم من كتائب القسام منصّة الحفل؛ ليهدي السنوار "مسدس كاتم صوت" غنمته الكتائب من القوة الإسرائيلية المتسللة، انتهى على خاصرة رئيس حماس، بعد أن تنحى يساراً عن منصة الخطابة ليمنح وسائل الإعلام فرصة التقاط هذا المشهد من جميع زواياه، والذي بدا في كل جوانبه، مقصوداً وذكياً ومرتفع الثمن.
هذا المشهد كما رأيته، شكّل خروجاً عن نظرية الفصل بين الساسة والعسكر باعتبارها قاعدة أو إجراء، في بعض نماذج الحكم، يضمن استقرار وسلامة الدولة ومدنيتها: صورة السياسي المسلّح. رغم أن الأصل المتعارف عليه يقوم على الفصل التام بين المفهومين، إلا أن مشهد السنوار شكّل خروجاً عن أصل هذه العلاقة.
فقد ثبت بالملموس، وبما حملته معطيات الميدان وخطاب المنتصر الذي ألقاه السنوار، أن القرار الذي يصدره المستوى السياسي مستنداً إلى قوة العسكر وتوجيههم، يحاط بقدر كبير من الجدّية، وتكون احتمالاته للتنفيذ أو قبول الأطراف المقابلة له أو المقصودة به، أعلى من القرار غير المحمي بقوة السلاح. فلم يحدث أن انتصر شعب محتل بقرارات ترتدي ربطة عنق.
هذا الشكل من الإدارة والتحكّم يظهر أنه النموذج الأكثر جدوى ونفعا في حالتنا الفلسطينية، أو ما يمكن اعتباره الخطأ الأكثر صواباً، خاصة أنه ارتبط في الصورة الذهنية أن تدخّل العسكر يعني الانقلاب والهدم. فقرار كسر الحصار عبر مسيرات العودة، النموذج الأقرب للاستحضار بطابعها المدني، لم تكن لتحصد مكاسبها لولا الحماية التي وفرتها غرفة عمليات المقاومة المشتركة في معادلة القصف بالقصف والدم بالدم.
السنوار قدّم إشارة مهمة جداً لهذا المعنى أو النموذج، حين صرّح بأنه قبل أن يحضر إلى حفل تأبين الشهداء، التقى القائد العام للقسام، وطلب منه أن ينقل عنه رسائل للناس. فهو بذلك أظهر الانسجام العالي بين المستوى السياسي والعسكري في حماس، وتكامل في الأدوار تميزت به الحركة.
هذا التكامل، الذي لا يحمل معنى تدخل العسكر الصريح فيتسبب بتعطيل عمل المستوى السياسي والتأثير عليه، ولا الابتعاد والافتراق بالقدر الذي يمنحهم التفرد بالقرار، وعدم تحمّل مسؤوليته. بل التكامل الذي يزعج الاحتلال، في صورة الهيئة الوطنية لكسر الحصار وغرفة عمليات المقاومة المشتركة.
الفكرة أن الوقت حان لنصنع نموذج الإدارة الخاص بنا في ظل استمرار رفض السلطة الفلسطينية استلام مهامها في قطاع غزة، بخلق تكامل في أدوار المؤسسات الوطنية المولودة حديثاً "الهيئة وغرفة المقاومة"، في إطار وطني جامع، سيشكل من دون شك جداراً أمام كل محاولات الرفض والتخوين، مع الحفاظ على المسافة التي تضمن عدم التشويش على مدنية عمل الهيئة ولا عسكرة قرارها أو شعبيتها، لكن توفير "سياسة آمنة" تعمل في إطارها وتحتمي بها. لأن الصراحة تقتضي الاعتراف بأن هذا التكامل هو النموذج المطلوب خصوصاً في مساعي كسر الحصار الإسرائيلي، لأن 12 عاماً من الحصار وفرت اليوم مبررات لتدخل العسكر.