انتظر رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، شهراً كاملاً ليصدر أول تعقيب على جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وذلك من مدينة فارنا البلغارية، عندما قال في الثاني من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الحالي "إنّ ما حدث في القنصلية في إسطنبول كان أمراً فظيعاً تنبغي معالجته بالشكل اللائق، لكن وفي الوقت نفسه، أقول إنه من المهم جداً، من أجل استقرار المنطقة والعالم، أن تبقى السعودية مستقرة، ويجب إيجاد الطريق لتحقيق هذين الهدفين، لأنني أعتقد أنّ المشكلة الكبرى هي من طرف إيران، وعلينا أن نضمن ألا تواصل نشاطها المعادي كما تفعل وفعلت في الأسابيع الأخيرة في أوروبا".
واعتمد نتنياهو استراتيجية في السنوات الأخيرة تقوم على تقريب التعاون مع دول الخليج، وعلى رأسها السعودية والإمارات اللتان أكثر من الإشارة إليهما باعتبارهما تمثلان ما يسميه "محور الدول السنية المعتدلة".
لكنّ هذا الاعتماد بات الآن، وبحسب جهات إسرائيلية مختلفة، مهدداً بالانهيار، أو على الأقل بالتضرّر بشكل كبير، في أعقاب تواتر الأدلّة على تورّط ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في عملية اغتيال خاشقجي.
ويبدو أنّ تجنّد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، هو الآخر، أخيراً، لتوظيف إسرائيل وحماية مصالحها كمبرّر للوقوف الأميركي إلى جانب السعودية، ومحاولة تخفيف حدة بشاعة الجريمة، وما يفترض أن يترتب عليها من ردّ أميركي، لن يساعد في الضرورة، على الأقل من وجهة نظر إسرائيلية، في الحدّ من الأخطار التي باتت تهدد استراتيجية نتنياهو الخليجية، للالتفاف على القضية الفلسطينية وتصفيتها عبر حلّ إقليمي يُفرض على الفلسطينيين بعد التوصّل إلى سلام مع باقي العرب.
وفي هذا السياق، أشار محلّل الشؤون الأميركية في صحيفة "هآرتس"، حيمي شاليف، في تحليل موسّع نشره أمس الجمعة، إلى أنّ "إسرائيل التي دفعت أثماناً باهظة نتيجة أخطاء قاتلة ارتكبها الموساد في عمليات فاشلة كثيرة، لم تصل إلى حدّ ما يهدّد جدياً مكانتها الدولية أو حتى بقاء قادتها، خلافاً لما يبدو عليه الوضع في السعودية".
ورأى شاليف أنّ الغضب الموجّه الآن ضدّ السعودية، وبشكل أساسي في الولايات المتحدة الأميركية، يفرض مستوى جديدا وخطيرا على عناصر وحدة "كيدون" التابعة للموساد (التي نفذت جملة عمليات اغتيالات خطرة خارج إسرائيل، فشل العديد منها، مثل اغتيال النادل المغربي أحمد بوشيكي للاعتقاد أنه القيادي حسن سلامة، ومحاولة اغتيال خالد مشعل في عمان) والوحدات المشابهة لها في أجهزة الاستخبارات في أنحاء العالم. وفي حال تورطت إسرائيل مستقبلاً في عمليات اغتيال مشابهة، فإنّ سابقة خاشقجي ستمنح خصومها سنداً للاعتماد عليه في المطالبة بإنزال عقوبة مشابهة على غرار المطلوب الآن تجاه السعودية.
وبحسب شاليف، فإنّ نتنياهو، الذي بات خبيراً في تقليل أضرار العمليات الفاشلة، يدرك أنّ بن سلمان سيدفع ثمناً معيناً لعملية الاغتيال، لكن بين هذا والمطالبة بعزل ولي العهد السعودي، يفترض أنّ الطريق لا يزال طويلاً، مستدركاً بأنه لا يمكن إغفال الضرر الدولي الذي لحق بمكانة السعودية. وحتى لو كان هذا الأمر لا يهدّد استراتيجية نتنياهو الشرق أوسطية، فإنّه يفترض أن تكون لدى الأخير مصلحة مهنية وقومية وحتى شخصية، في الدفاع عن بن سلمان ولو من وراء الكواليس.
لكن يستطرد شاليف قائلاً: "إن الخطر الاستراتيجي الذي قد يسفر أيضاً عن تداعيات سياسية، هو ما دفع بنتنياهو ومبعوثيه إلى الانبطاح وتقديم المساعدة من أجل دعم ترامب ومنع إدارته من (سكب المياه في حوض الاستحمام ومعها الأمير)"، وفق التعبير الذي استخدمه سفير نتنياهو في الولايات المتحدة رون دريمير، للدلالة على إمكانية إقفال ملف الجريمة والإطاحة ببن سلمان.
وقدّمت إسرائيل لترامب سترة واقية تحميه من لسعات منتقديه، إذ يطالب عدد من الجمهوريين والديمقراطيين باتباع سياسة حازمة تجاه السعودية، بما في ذلك معاقبة بن سلمان شخصياً.
وأشار شاليف إلى أنّ ترامب، وظّف إسرائيل في سياق تبرير موقفه من وجوب الحفاظ على العلاقات مع السعودية، لإقناع المسيحيين الإنجيليين بدعم موقفه مستخدماً الكلمة ذات المفعول السحري عليهم "إسرائيل". لكنّ هذا الأمر لا يترك الأثر نفسه في نفوس الديمقراطيين، بمن فيهم مؤيدو إسرائيل. ولفت في هذا السياق إلى ما نشره الكاتب المناصر لإسرائيل عادة، جون كيهل، في صحيفة "واشنطن بوست"، والذي جاء فيه أنّ "زعيم إسرائيل يحاول أن يعفي ديكتاتوراً عربياً من مسؤوليته عن جريمة قتل"، مع إشارته أيضاً إلى الدفاع الذي وفّره الوزير الإسرائيلي، نفتالي بينت، والسفير دريمير، للرئيس ترامب بعد جريمة قتل يهود إصلاحيين في كنيس يهودي في بيترسبيرغ.
وفيما أشار الكاتب في هذا السياق، إلى أنّ "تبريرات نتنياهو ومواقفه قد تكون مقبولة لدى اليمين الأميركي وإدارة ترامب، إلا أنّ إسرائيل عملياً كمن يسير على طبقة رقيقة من الجليد في علاقاتها مع الديمقراطيين في الولايات المتحدة، لا سيما بعد فوزهم في الانتخابات النصفية الأميركية وما حققوه من إنجازات أعادت لهم قوتهم وتأثيرهم في واشنطن".
ومع إقرار الكاتب بأنّه لا يزال بمقدور إسرائيل، رغم التغييرات، الاعتماد على "الحرس القديم" في الحزب الديمقراطي الأميركي، إلا أنه نظراً للتغييرات في الحزب، وتحديداً في ما يتعلّق بصفوف الشباب فيه والقوى الصاعدة، فإنّ أسس الدعم التقليدية، أخلاقياً، لمساندة إسرائيل مثل الهولوكوست وحرب حزيران، لم تعد أكثر من مجرّد تاريخ في نظر الكثيرين.
وهؤلاء يرون في إسرائيل دولة احتلال تتدهور تدريجياً، ولكن بشكل ثابت نحو الشوفينية القومية والإثنية المكروهة عندهم، وتنكل باليهود (الإصلاحيين والمحافظين) الذين صوّت 80 في المائة منهم للحزب الديمقراطي، وهؤلاء سواء كانوا يهوداً أم غير يهود، لن يغفروا لإسرائيل هذا الوقوف المطلق من قبل نتنياهو وممثليه وراء ترامب".
ورأى شاليف، بالاستناد إلى ما سبق، أنّ استعداد نتنياهو للدفاع عن بن سلمان هو انحراف عن التوجّه الإسرائيلي التقليدي القائم على التواضع، ومحاولة التقليل من دور إسرائيل في تحريك السياسة الخارجية الأميركية، خصوصاً في الحالات التي يمكن أن تتدهور فيها الأمور لمواجهة عسكرية ووقوع ضحايا.
وقد بذلت إسرائيل جهداً كبيراً مثلاً، بحسب الكاتب، في محاولة نفي ادعاءات عن دورها في دفع الرئيس الأميركي جورج بوش إلى غزو العراق. واليوم، إذا تدهورت الأمور في السعودية، فسيكون اسما نتنياهو وإسرائيل محفورَين بأحرف كبيرة على صخرة الهزيمة".
ووفقا للكاتب، فإنه "من المحتمل أن تؤدي تداعيات جريمة اغتيال خاشقجي، وفق سيناريوهات متشائمة، إلى تفكيك الجبهة المناهضة لإيران التي بناها نتنياهو وترامب، كما تهدد بتبديد آمال نتنياهو بتعميق العلاقات مع الدول العربية المعتدلة، لا سيما إن كان لبن سلمان دور يفترض فيه أن يخفض سقف التطلعات والمطالب الفلسطينية. لكن الآن من المحتمل أن يفضي تورط بن سلمان إلى أن يمتنع الأخير عن دعم الخطة الأميركية خوفاً من ردّ الفعل العربي عموماً، وفي الرياض ومكة على نحو خاص.