قائد الطوفان قائد الطوفان

جدران سوداء

بقلم: رشا فرحات

زنزانة سوداء..وعتمة لكل الأشكال..وكهل مضى على جسده الممد داخلها سنين طويلة..لم يعد يهم ..لا يحسب الأيام..طويلة أحزانها وقد أصبحت جزءا من هذا اللحم الممد، لكنها أخبار سيئة تلك التي توالت هذه الأيام، أصعب من أن يحتملها ذلك العليل، هنا بعد مرور السنين تسقط دمعتان من تلك العينان اللتان لم تتذوقا طعما للدموع، قوتهما فاقت تصورات المبصرين غيرها، لكنها اليوم تتذوق للمرة الأولى طعم الانكسار، فلا أمل لها للخروج من أجله، فمتى ستأتي تلك الحرية المنشودة منذ سنين طويلة، والى أي البيوت المقدسية سوف تعود، بيت خال من الأحباب، وحدة أخرى لم يعمل لها قبل اليوم حساب..

تحسس وجهه الذي لم يراه منذ عشرين عاما، واستفاق فجأة على سنوات مرت لم يكن يفكر فيها بأن الموت له كلمة أخرى، فصرخ في وجهه يرجوه بأن يتأخر قليلا من اجلهما، لكنه لم يكن يقرأ فيه جبروتا لهذه الدرجة، قرر فقدر، ثم أخذهما إلى حيث قدر.

شعر بنظرات زملاءه إليه، لا يقدرون على إضافة شيء، يحاولون البحث عن كلمات لمواساته..فيلتزمون الصمت . يشعر بما يشعرون به فيفتعل ابتسامة صبر مؤلمة على شفتيه، يلعن هذه العتمة، ثم يلعن هذه الغربة، ثم يمسك بيداه المتعبتان قضبان الزنزانة، فيلعن أولئك وأولئك، كثيرون هم الملعونون باسمه وباسم زملائه خلف هذه الجدران السوداء..غضب مكبوت في صدره وابتسامة ما زالت مرسومة على وجهه، رمزا لقوة وجبروت طالما اتصف بهما.

تحسس كتبه المكومة على الطاولة المجاورة فاستشعر دفئها وتذكر كلمات أم علاء له، وتذكر غرفته، وكأس الشاي من يدها، وشرفته المطلة على شمس القدس الحزينة، ويدا والده الملطخة بتراب أشجار الزيتون، صورهم مرسومة في مخيلته، وكأن عيناه تأبى أن ترى غير تلك الصور..يصبر نفسه بكلمات كثيرة، يأبى أن تصبح تلك الأكذوبة حقيقة، فغداً سوف يخرج ويعود إلى بيته، ويطرق باب الدار، ويلج إلى غرفته سريعا، ويقبل يد أمه المنتظرة ويكفف دموع والده المشتاقة ، ثم يهاتف أصدقاءه لاسترجاع هفوات الشباب القديمة ..في الغد ..سوف تصبح الأحلام حقيقة..فلماذا تغيرت الأحلام، تلك التي يحيا بها ومن أجلها .

صرخة مدفونة منذ سنوات خرجت اليوم، لم تخرجها ضربات السجان، وعذابات المعتقل، وإنما أوجاع ذلك البيت العتيق، الذي بات فارغا من أحبابه، أين هي كتبه، أين هي ذكرياته، من سيفجر الحياة هناك، ومن سيطرد شبح الخوف من ذلك البيت، من سينتظر عودته من سفره الطويل..من سيحمل عنه أسفاره الثقيلة، مؤلم إحساس الغربة مرتين، مؤلم أحساس الوحدة مرتين، مؤلم عذاب الاعتقال مرتين..

رفع عيناه الكفيفتان إلى ذلك الضوء الخافت القادم من تلك النافذة مرسلاً رسائل الوداع إلى ذلك الجثمان المسجى في مكان ما من تلك الأرض، مواسيا نفسه..مودعا أحبابه.. محدثا زملاءه الصامتين إلى جانبه: يكفى أنهما احتضنتما ثرى القدس.

بعزيمته المعهودة وقف ..متحديا..مبصراً هذه المرة.. صارخا بأعلى صوته..لن اسمح لهذه الزنزانة بأن تصبح قبري.

البث المباشر