رشا فرحات
ينظر إلي بنظرة استفهام غريبة كلما مررت بالقرب من الباب الجنوبي لمستشفى الشفاء الذي اقطن بجانبه، وهو بتعبيرات وجهه التي تخلو من أي أشكال للطفولة على الرغم من انه على ما يبدو لم يتجاوز العشر سنوات، ويدور بين زقاقات الحي بالإضافة إلى المرضى والعاملين في المستشفى ليبيع الشاي على المارة والمتجولين والبائعين المفترشين الأرض بجانب بوابة المستشفى، يحمل براد الشاي بيده، وبيده الأخرى أكواب ورقية وضمة من النعناع.
قررت الاقتراب منه أكثر، ربما لأنه أثار حفيظتي وفضولي لكتابة قصة صحفية أو موضوعا يتعلق بعمالة الأطفال، سألته عن عمره، فأجاب انه في الحادية عشر، وعرفني على اسمه قائلا: أنا احمد، والغريب انه من العائلات الكبيرة في مدينة غزة. ثم بدأ يسرد تفاصيل حياته.
احمد يبيع الشاي منذ خمسة أعوام، أي منذ كان في السادسة، يأتي إلى هنا منذ ساعات الفجر الأولى، ويدخل إلى أروقة المستشفى، في أي وقت، ويسمح له الجميع بالتجول بكل راحة، وكأنه احد الأفراد العاملين هنا، يعرف كل الأطباء، بل ويستطيع أن يكتب لك مجلدات كاملة عن شخصية كل منهم، يعرف الطبيب الأفضل في المستشفى، والجراح الأجدر بالعمل، بل ويعطيك نصيحة إذا احتجت، والى إلي الأطباء يمكنك أن تتوجه، ويحمل في صدره الصغير هموما وأعباء وقصصا ينفطر لها القلب، وأكثر ما يضايقه، أطفال في مثل عمره، يسكنون هنا ويداومون بشكل يومي، ثم يخرجون في النهاية إلى قبورهم بصمت، فيحمد الله على نعمة الصحة، ويواصل المناداة على بضاعته البسيطة .
يحب احمد الثرثرة كثيرا، فما أن اقتربت منه حتى اسأله عن قصته، وعن الأسباب التي جعلته ينخرط في العمل منذ سن صغير، وإذا به يحكي ويحكي، معترفا انه كان يعلم من الجيران أنني صحفية، واكتب وكان يتمنى لو تقدمت للحديث معه، أحلامه صغيرة، لا تتعدى لعبة، أو جهاز كمبيوتر، وهو يراه حلما بعيد المنال، ويحكي قصصا لم أكن انوي نبشها، تنهدات عميقة خرجت من بين أنفاسه المكتومة، قائلا بفخر متألم، أنا أعطي أبي كل يوم خمسون شيكل.
وأنا أثارني ما قال، فسألت وسألت، كان يدرس في احد المدارس الإعدادية، متفوق، لكن والده استعجل له المغادرة من عالم الطفولة إلى عالمه ذاك، وعلى حد قول أحمد فإن والده قال له: لقد اتقنت القراءة والكتابة، فماذا تريد أكثر من ذلك، أليس لي حق بالراحة، ألا تريد أن تساعد والدك في تحمل مسؤولية إخوتك قليلا،ثم يعينان دامعتان وصف تلك الضربات الموجعة على أكتافه الصغيرة، وتلك الوعود التي كان يسمعها من والده والتي لم تنفذ. وبدأ رجل الأعمال الصغير انخراطه في براثن العمل والتعب، حتى يساعده في تحمل مسؤولية أسرته.
هممت بالذهاب حينما بادرني بعقل متفتح وفاجأني بقوله: هل تعرفين اتفاقية حقوق الطفل، فبهت في نظرة متفاجأة مما قال، ثم رد على نظراتي بقوله: أنا اعلم كل شيء لكن أبي لا يعلم، أريد لباسا جديدا أريد لحافا دافئا أريد أن أعود إلى المدرسة، أريد أن ادخل الجامعة، الم تحكي اتفاقية حقوق الطفل ذلك، اكتبي في قصتك أحلامي، ولتنشر في الصحيفة لعلني أجد من يقنع أبي بها، أليس هو المجبر بتحقيق كل هذه الأحلام؟!!!!أريد أن اذهب إلى مؤسسة حقوقية لأرفع قضية لرد اعتباري، فأنا الآن اعرف كل شيء، لكن ما لم اقتنع به قولهم أن أبي هو من سلب مني هذه الأحلام، هل حقا سلب أبي مني أحلامي؟!! دموعه بدأت بالتساقط كحبات المطر في ليلة مغبرة، لتغسل عن قلبه الصغير أوجاعه المتراكمة، وحبات التراب التي تغطي ملامحه، فوقفت هاربة من نظرته المخيفة تلك، وصرخاته المكبوتة التي لم تخرج بعد، والأهم هربت من ضعفي وقلة حيلتي وعجزي عن تقديم أي شيء..