لربما شارك البعض أو أيد بحسن نية محاولات إعادة الفلتان إلى غزة، ومع أن هناك فعلاً حاجة عند الناس لرغيف الخبز والحياة الكريمة لكن سياق الأحداث وما سبقه من إجراءات وتحريض تؤكد أن هناك مخططا كاملا لإثارة الفوضى وتشويه صورة حماس في قطاع غزة:
هذا المخطط كشفته تصريحات بعض قيادات السلطة وحركة فتح أمثال أسامة القواسمة، وحسين الشيخ.
كذلك تحريض تلفزيون فلسطين وتخصيصه ساعات طويلة من البث مع اغفاله لأحداث هامة في الضفة والجميع تابع انشغال التلفزيون لحظات حصار البطل عمر أبو ليلى.
لم يكن موضوع الظروف المعيشية وقلة الرواتب جديدا فقد جرى خلق أزمات متتالية لحركة حماس منذ تشكيلها الحكومة العاشرة وبالرغم من محاولتها منذ البداية اشراك الفصائل في الحكومة إلا أنها قوبلت بالرفض.
شكلت حماس حكومتها وتسلمت خزينة وزارة المالية خاوية على عروشها، وبدأ مسلسل "الخمسة بلدي" عبر مسيرات من موظفي السلطة عسكريين ومدنيين تطالب برواتبها ولم يقف الأمر عند هذا الحال فقد أشعلوا الإطارات وأغلقوا الشوارع الرئيسية وكانت المطالبات "بدنا رواتبنا وبدنا نعيش"، ولكن لأن هذا ليس هو السبب الحقيقي لخروجهم هتف بعضهم وقال " يا زهار ويا هنية حيرجع عهد القنية" في إشارة منهم للاعتقالات التي كانت تنفذها السلطة وأجهزتها الأمنية بحق قيادات حماس وكوادرها، وهنا انكشفت النوايا الحقيقية.
تدحرجت الأمور إلى أن وصلت إلى نقطة المواجهة والحسم في منتصف عام 2007، ولم تقف محاولات زعزعة الأوضاع في غزة، وجاءت هذه المرة بأشكال أخرى مثل محاولاتهم إقامة صلاة الجمعة في العراء والساحات العامة.
واستمرت محاولات خلق الأزمات مع تشديد الحصار ومن أزمة الكهرباء إلى أزمة الوقود واستمرار قطع الرواتب والاحالة إلى التقاعد وأخيراً رزمة (عقوبات عباس) التي تضمنت خصم نصف رواتب الموظفين وقطع مخصصات الشهداء والأسرى والجرحى وحتى ملاحقة المستفيدين من مخصصات الشؤون الاجتماعية، ويمكن العودة إلى تصريحات القيادي في تيار دحلان سمير المشهراوي الذي قال في مقابلة تلفزيونية مع قناة الغد إن سياسة أبو مازن وبعض مستشاريه قائمة على دفع أبناء حركة فتح في قطاع غزة للخروج إلى الشوارع في مواجهة مع حركة حماس ليسقط قتلى وجرحى وبحر من الدماء".
وكان واضحاً من خلال سلوك السلطة وتصريحات قادتها أنها تحاول تجويع المواطنين للوصول إلى لحظة يشتبك فيها "الجائع مع جائع آخر من أبناء شعبه" أملاً في تقويض حركة حماس، ومن المهم الانتباه هنا أن حلمهم يتمثل في تقويضها كحركة مقاومة وليس فقط كسلطة وحكومة فهي تنازلت عن الحكومة في اتفاق الشاطئ 2017، ولكن المطلوب تشويه صورتها وصولا إلى اضعافها وأن تقبل بكل "المحرمات" بما فيها "تجريدها من سلاح المقاومة".
في 14 مارس الماضي بدأت أولى محاولات إثارة الفلتان في منطقتي الترنس في مخيم جباليا، ومدخل مخيم دير البلح، وشارك فيها فعلا عدد ممن شعروا بضيق العيش ولهم مطالب حياتية ولم يدرك بعضهم أن هناك من له في هذا الخروج مآرب أخرى.
وبالفعل لأن التحرك كان هدفه الأساسي الوصول إلى حالة الاشتباك مع الشرطة فقد نجح نسبيا خاصة في مخيم دير البلح، وقد تم جر رجال الشرطة للاشتباك معهم بعد القاء الحجارة عليهم وتوجيه هتافات مستفزة مثل " شيعة شيعة"، وألفاظ نابية أخرى.
وتحقق هنا المراد وخرجت الصور التي يريدونها وظهر رجال الشرطة ومن ورائهم طبعاً حركة حماس " قمعيين" .
لا شك أن كرامة المواطن أهم شيء في المجتمعات المتحضرة، والمجتمع الفلسطيني صاحب القضية وحامل لواء المقاومة يدرك مدى أهمية الفرد وكرامته لأن كيانه قائم على أساسها ولربما أخطأت شرطة دير البلح في التعامل مع الحالة لاسيما ان هذه المدينة هادئة ووادعة ومن المستغرب أن تمثل شرارة لأي حالة فلتان.
ومع ذلك فقد جرى تضخيم الأمر عشرات المرات واشتغلت الآلة الإعلامية التابعة للسلطة بكل ما أوتيت من قوة وبدأ النفخ في الكير، وخرجت قيادات فتح تتحدث عن كرامة الإنسان "قبل أسابيع قمعت بكل وحشية مظاهرات منددة بالعقوبات في رام الله".
وانزلقت بعض الفصائل وزادت من جرعة التنديد وظهرت ومعها حركة فتح كأنها لجان حقوقية، مع أن هناك تاريخاً من القمع مارسته عندما كانوا يسحبون تصريح "الممغنط" من العمال وما حصل من اشتباكات بين لجانهم والمواطنين الرافضين لتسليمها، وقبل ذلك أوائل السبعينات عندما كانوا يستهدفون باصات العمال بالقنابل اليدوية.
على أية حال يبدو أن محاولة إثارة الفلتان هذه المرة لن تنجح كما المحاولات السابقة منذ فوز حماس في الانتخابات عام 2006، ومع أنه مطلوب تلمس حاجات الناس والصبر مثلهم على مصاعب الحياة، فإنه من العدالة أيضاً توجيه أصابع الاتهام إلى المتسبب الحقيقي في معاناتهم وليس إلى من يشاركهم هموم الحياة واستحقاقات مقاومة المحتل.