تقاسما جفاف الغربة ،بكيا حنين الوطن ، ولقاءات الأهل والأحبة و سمر ليالي رمضان وتكبيرات العيد ،لم يكن امام كل واحد منهما سوى كَتف الآخر يجود بماء عينيه عليه ليشفي ظمأ قلبه فكل منهما للآخر وطن .
رصاصات غدر تقتل تلك الروح التي كانت لها نَفسَ أمن واطمئنان ،بل فسحة حياة ملونة .
فراق جديد يخيم بوحشته على سويداءها ، سبقت وقد فارقت باختيارها الوطن و الأهل لتكون برفقة حبيبها في مساره العلمي وحياته العملية ، ولكن هذه المرة ليس فراق قرار واختيار إنما فراق قدر...
كتبت بحبرها الموجوع فقالت "قد منع الله عنا نعمة الأبناء في بداية زواجنا ،حتى قررت أن أرافق زوجي وسافرنا معا ، فجاد الله علينا بما قد صرفه من قبل ورزقنا بالأبناء وكانت سعادتنا بهم كبيرة كِبر الأماني والرجاء ،ولكن بُعد الأهل أذهب الكثير من بريق فرحتنا بهم ...وكأن الله لا يَقسم للعبد كل جمال الدنيا مرة واحدة .. فكُنت دائما ألح على الله بأن يطوي سفرنا ويعجل لقاءنا بأحبتنا "
فلم تعلم حينها أن دعاءها هذا لن يطول تلبيته وليقرُب لقاء الأهل على أرض الوطن ولكن دون رفيق الطريق ...
قد أفل نجم حبيبها ، قد قتلوا بطل أحلامها ، غاب داعي ضحكاتها ومسراتها وانكسرت زجاجة عطرها المفضل التي فاحت بشذى عبيرها طوال سنين زواجهما .
كم يصعب الفراق على قلوب المفترقين حينما يستوطن الحب تلك القلوب .
حزمت أمتعتها جمعت كل ما تستطيع حمله من بيتها في مدينة كوالامبور ليكون ارث الروح في القادم الأليم .
حدقت ببطئ في كل شيء من حولها لترى تفاصيل سَكنها وعُش حبها مع ذاك الراحل ، مكان جلوسه، كتبه ،قرطاسه وأبحاثه ومكان خلوته مع مصحفه وسجادة صلاته ،كل الأماكن فرغت ، سوى من طيف ذكريات أيامهما الخوالي.
يفاجئني أنك لم تزل معي ..
وأنت شاخصٌ في وقفتي الصماء والتفاتاتي..
أرقبني فيك واستدير باحثا لدي عنك..
تحوطني فأتكأ....تمسك بي إذا الهوى رماني ....
ستعود الى غزة الحب والعطاء و الحضن الدافئ ،الأهل التي أفتقدتهم مع كل ما منحها القدر من هبات وهدايا ...ستعود ولكن رفيق السَكن و السفر عاد حاضرا في تابوت الرفات والموت ... تابوت حَضن الماضي والحاضر وودع المستقبل ليوصي بوصيته الأخيرة : أبناؤنا يا رفيقة الحياة والجنة .... فيرد دمع مقلتيها ..لا عليك اهنئ بما أثابك الله وأدعو أن يمنحني صبرا على قدر ابتلاءه لي فالله لا يكلف نفسا الا وسعها .
سأخوض حياتي الجديدة ومعركة التكيف فيها بعد أن فرُغت من أكبر وأمتن ركن ، سأتعود على غيابك، أَعلم بأنه ليس هينا أن تُعود ذاتك بما لا يهواه قلبك ، فقد غادرتني وأبقيت لي ثلاثة فسائل صغيرة تحتاج لمن يتعهدها بالرعاية والعناية و يحميها من ريح الحياة ....ولكن هو العهد رفيقي .. بأنهم سيصونون درة التاج التي زينتهم بها الحياة ....أنهم أبناء الشهيد المهندس فادي البطش ....أغمض عينيك وأرح جسدك وراقبهم في مرقدك ... فقيمنا ومبادئنا ستشد من أزري الضعيف ، فحياة المؤمن لا تنتهي مع الابتلاء بل هي بداية لمرحلة ستكون الأصعب في عمري ، ولكني سأجعل منها جسرا لحياة أكثر نورا لفسائلنا الصغيرة والتي ستكبر يوماً وتثمر لتلُفني بفي ظلها الطويل وتمسح عن وجهي حرارة التعب ،ومن فؤادي حسرات الفراق ..
لن يُبلي الفراق حبك .... ولن تغيب صورتك في أتربة قبرك ..وستبوح روحي لروحك كل ليلة أناتها وحسراتها وفخرها أيضا ..وسيبقى أملي يناطح السحاب بأن يجود عليَ بلقاءٍ معك لا نفترق بعده أبدا ...أليس هو الذي وعد وقال "وبشر الصابرين "
بلى .......يا حبيبة