أ. يوسف علي فرحات
إذا كان الله تعالى قد وعد المؤمنين بالنصر على أعدائهم ، إلا أن هذا الوعد لا يتحقق على ضوء السنن الخارقة ، فهذا الدين شرعه الله للبشر ، لذا فهو لا ينتصر إلا بجهد البشر . طبعاً لا يعني ذلك أننا نقلل من شأن السنن الخارقة ، لكن هذه السنن تتدخل في حال استنفذ المسلمون جهدهم بالأخذ بسنن النصر الخارقة .
وإذا كانت السنن الخارقة قد لعبت دوراً كبيراً في حسم المواجهة مع معسكر الشرك في معركة ( بدر الكبرى ) إلا أن هذا جاء في لحظة لم يكن المسلمون يريدون فيه قتالاً ، وإنما خرجوا يريدون العير ، فضلاً أن انتصار معسكر الإيمان في أول مواجهه هو أمر ضروري ، لأنه الهزيمة في هذه الحالة سيكون ثمنها كبير جداً . وبالرغم من ذلك نزل القرآن وهو يعقب على غزوة بدر ينبه أن للنصر عوامل تدور في فلك السنن الإلهية ، لا بد للمسلمين أن لا يغفلوا عنها . وهذه السنن من خصائصها أنها لا تحابي أحداً ، كما أنها سنن مطردة ، في الأزمان والأجيال .
والمتأمل في الآيات التي نزلت تعقيباً على غزوة بدر يستطيع أن يسجل جملة من عوامل النصر ، على ضوء السنن الإلهية :
أولاً : الإيمان : من عوامل النصر التي مضت بها سنة الله في النصر وأخبرنا بها الله جلّ جلاله (الإيمان ) وقد أشار القرآن الكريم وهو يعقب على غزوة بدر لهذا العامل ، وذلك في قوله تعالى : )إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ( [ الأنفال : 19] أي من كان الله في نصره لم تغلبه فئة وإن كثرت .
وهذه السنّة مؤكدة لا يخالطها ذرة من الشك ، ولا تنتقض بما يُرى من واقع المسلمين في كونهم مغلوبين لا غالبين ومقهورين من قبل أعدائهم . لأن هذا الواقع يتحمل المسلمون أنفسهم مسؤوليته ، وبناءً عليه يجب عليه أن يراجعوا أنفسهم ويصلحوا عيوبهم .
وليكن معلوماً أن الإيمان وحده لا يغني عن عوامل النصر المادية. لهذا أمرنا الله تعالى بإعداد القوة المادية ، قال تعالى : )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ...( . ولكن هذه القوة للإيمان أو هذه السببية فيه للنصر لها حد محدود بيّنه الله تعالى حتى لا نغالي في الأمور ، وحتى نعطي لكل شيء حقّه من التقييم والتقدير من دون مغالاة فلا نقع في الوهم والخطأ في الحساب والتقدير فنخسر ولا ننتصر على عدونا .
وللقوة المادية تأثير في النفوس ، ومن هذا التأثير الإحساس بزيادة القوة لدى الفريق الذي يرى أنه أكثر قوة مادية من الفريق الآخر فيتصرف ضد خصمه في ضوء هذا الإحساس والشعور .
ثانياً : تقوى الله :
قال تعالى : )إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ {124} بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ([ آل عمران : 124، 125].
وجاء في تفسيرهما : والظاهر في المدد أن الملائكة يشركون الجيش في القتال إن وقعت الحاجة إليهم ، ويجوز أن لا تقع الحاجة إليهم في نفس القتال ، وأن يكون مجرد حضورهم كافياً في تقوّي القلب . وجعل مجيء خمسة آلاف من الملائكة مشروطاً بثلاثة أشياء : الصبر والتقوى ومجيء الكفار على الفور . فمدد الملائكة للمؤمنين كان بسبب تقواهم ؛ لان صبرهم من جملة تقواهم.
ثالثاً : إعداد القوة للجهاد :
وإذا صحت العزيمة للجهاد بقتال العدو والدفاع عن دار الإسلام ، فهذا وحده لا يكفي بل لا بد من إعداد القوة اللازمة للجهاد كما أمر الله تعالى بقوله جلّ شأنه : )وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ( [ الأنفال : 60] .
والقوة المطلوب إعدادها يجب أن تكون مرهبة للعدو ، وهي لا تكون كذلك إلا إذا كانت أكبر وأقوى من قوته بحيث تجعله يخاف أن يتحرش بالمسلمين وبدولتهم ويرهب قوتهم وبالتالي ييأس من إمكان أن يحصل على شيء من المسلمين ودولتهم إذا هجم عليهم أو تعرض ببلادهم ، فيكف شره عن المسلمين .
رابعاً : الصبر والمصابرة والمرابطة :
قال تعالى : )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ( [ آل عمران : 200] . أي اصبروا على ما يلحقكم من الأذى في قتال العدو ومدافعته ، وصابروا الأعداء الذين يقاومونكم ليغلبوكم على أمركم ويخذلون الحق الذي في أيديكم ولا تكونوا أقل صبراً منهم . وأقيموا في الثغور مرابطين فيها استعداداً للقتال ومترصدين للعدو لئلا يتسلل إلى داخل بلادكم .
خامساً : ذكر الله :
ومن عوامل النصر للمؤمنين ذكر الله كثيراً قال تعالى : )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ( [ الأنفال : 45] . والمعنى : يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة من أعدائكم الكفار فاثبتوا لهم ولا تفروا من أمامهم فإن الثبات قوة معنوية طالما كانت هي السبب الأخير للنصر والغلبة بين الأفراد والجيوش (وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً) أي وأكثروا من ذكر الله في أثناء القتال وقبله .
اذكروه في قلوبكم بذكر قدرته ووعده بنصر رسله والمؤمنين وبمعيته الخاصة للمؤمنين الصابرين وبذكر نهيه تعالى لكم عن البأس مهما اشتد البأس وبأن النصر بيده تعالى ينصر من يشاء وهو القوي العزيز . فمن ذكر هذا وتذكره وتأمله لا تهوله قوة عدوه واستعداده لإيمانه بأن الله تعالى أقوى من عدوه . وفي الأمر بذكر الله تعالى كثيراً إشعار بأن على المسلم أن لا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون هماً (لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ) هذا الرجاء بالفلاح منوط بالأمرين كليهما أي بالثبات وذكر الله تعالى فهما السببان للفلاح والفوز بالنصر في الدنيا ثم نيل الثواب في الآخر.
هذه بعض عوامل النصر كما وردت في القرآن تعقيباً على غزوة بدر . أما معوقات النصر فقد ذكرتها سورة الأنفال وتتمثل في :
أولاً : التنازع والاختلاف :
قال تعالى : )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ([ الأنفال : 45] .
فالاختلاف والتنازع مدعاة للفشل ، وهو الخيبة والنكول عن إمضاء الأمر ومن أكبر أسباب الضعف والجبن ، ولذلك فسروا قوله تعالى : (فَتَفْشَلُوا) أي فتجبنوا عن عدوكم وتضعفوا عن قتالهم (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي تذهب قوتكم ودولتكم ، فقد شبهت الدولة في نفاذ أمرها بالريح وهبوبها .
ثانياً : الغرور والرياء :
ومن معوقات النصر الغرور والخروج للقتال على وجه البطر والفخر والرياء . والله تعالى لا يعطي نصره إلا لمن خرج ابتغاء مرضاته ونصرة دينه ولهذا نهى الله تعالى عن مثل هذا الخروج ، فقال تعالى : )وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ([ الأنفال : 47] . ومعنى (بَطَراً) أي فخراً وأشراً (وَرِئَاء النَّاسِ)أي خرجوا ليثني عليهم الناس أي يمدحونهم بالشجاعة والسماحة . والمقصود نهي المؤمنين أن يكونوا أمثال أولئك في البطر والرياء ، وأمرهم أن يكونوا أهل تقوى وإخلاص . [ انظر : السنن الإلهية في الشريعة الإسلامية ، عبد الكريم زيدان ، بتصرف شديد ]