ربى أبو عمو
ليْسَت هنا، في مكانٍ ما، في عزلةٍ. وحدها وعصافير لا تعرف أسماءها. كانوا قد أيقظوا السماء باكراً، وبدأوا يسرحون فوق سريرها، وفوق سقف غرفتها، وفوق المبنى الغريب عنها. أصواتُهم تبدو دخيلة، وأصواتٌ أُخرى في غرفتها. المكيّف القديم، وبشرٌ يسيرون في الخارج، يروحون ويجيئون مثلَ العصافير، ويُصدرون أصواتاً دخيلة. وهي وحدها، في تلك العزلة، حيث تشرب قهوةً من دون رائحة، وترتدي ثياباً لا ترى الشمس، وتحمل فوق جسدها لوناً عتيقاً كان لآخرين، أحياء أو موتى.
غريبة في ذلك المكان. السرير فاتح، كأنّه بلا لون. تمسكه علّها تضع فيه روحاً، أو يسير بها إلى حياةِ. روحُها تصعد إلى السماء ولا ترقد فيها، وتنزل إلى الأرض ولا ترقد فيها. روحُها باهتة، جافة، ومهجورة تحيك قلقاً. نتأت تفاصيلها على ذلك السرير، وفي التفاصيل خوفٌ من عمرٍ وعلى عمرٍ. خوف من حياة وموت، من عصافير قد تكون فأل خير أو فأل شر، وقطط جائعة في المنام. خوف من كوابيس ستأتي، ومن فجرٍ سيطلع، ومن ظلام سيُخفي حياة كانت قائمة.
في عزلة أم في هاوية. قلق وغبش. المشهد واضح، أم أنّ هذا ما بقي منه. الأصوات تُلاحقها، وصوتُها الذي لا تسمعه وينخرُ عظامها مثل بردٍ يشلّ حركتها. في البرد تخسر أطرافها، كأنّها تتطاير في الهواء ولا تلتقطها. في لحظة ما، تعود بعضها إلى بعض، ضعيفة وهشّة، تملأها أرواح شرّيرة تخرج فجأةً من قصص، ولا طاقة لها على رفضها. أرواحٌ كانت هُنا قبلها وباقية بعدها. وحدها على السرير، تُحاول الإمساك بالألم وتعجز عن قراءته. وتلك الحروف في رأسها تؤلّف كوابيس تلو الأخرى.
روحُها طاهرة وبريئة. وبقدرِ ما هي كذلك، تفلت من إيقاع الدنيا. ولكثرةِ ما سقطت، لم تعد قادرة على لملمةِ نفسها. الورود بعد وحدتها نعمة تذبل، وتصير رائحتها بشعة. والوحدة عزلةٌ من كيان وإيقاع، لكنّ العصافير لا تتركها، حتّى تخال نفسها تلك التفاحة العفنة. بعض العصافير متمرّدة، ولا تتوقف عن الكلام إلى أنّ تسوَدّ الدنيا.
هي لا هُنا ولا هُناك. فقط على ذلك السرير الفاتح، حيث تحضر كلّ تفاصيل الحياة وتحملها إلى تهلكة، إلى قبرٍ لا يُزرع في التراب. تحلم بقوس قزح اعتادت أن تراه ينتهي ولم تعرف كيف يبدأ. كأنّه مثل تلك الورود التي ستذبل سريعاً ولن تنقذها المياه العذبة.
ها أنا أضع يدي على رأسكِ. أقول لكِ إنّ حياة مرّت من هنا وأن جسدك لم يعد يقوى عليها أو على أُخرى... السرير باهت ولا يتحرّك. نامي إلى أن تأتي العصافير في الصباح، وأخبريها بأنّك كنت هنا يوماً، ولا تعرفين تفاصيل أكثر.