مؤمن بسيسو
يراوح مستقبل القضية الفلسطينية بين جذب تصفيتين:
تصفية سياسية يتم حبك فصولها وتفاصيلها في إطار المفاوضات المباشرة التي تشير تسريبات محددة إلى بلوغها حدّ إنضاج صفقة خطيرة تستثني قضايا القدس واللاجئين والاستيطان من معالجاتها الأساسية.
وتصفية أمنية ميدانية على أرض الضفة الغربية تغذيها أمواج التنسيق الأمني المتواترة التي حولت الضفة إلى محمية إسرائيلية، وكرست شعور الفلسطيني بالغربة داخل وطنه المستباح قيميا وأخلاقيا.
لا أحد يعرف بالضبط ماذا يدور في كواليس المفاوضات المباشرة، إلا أننا نعرف تماما أن صفقة تسوية شبه ناجزة قد أبرمت زمن حكومة أولمرت المنصرمة، واستثنت قضية اللاجئين وأفرغتها من مضامينها، وعالجت قضية القدس عبر منح أحيائها العربية حكما بلديا ولم يبق سوى تحديد مصير المسجد الأقصى، وقفزت عن قضية الاستيطان عبر مشروع تبادل الأراضي بين الطرفين، وهذا ما يفسر المطالبات الفلسطينية الرسمية والمتكررة ببدء المفاوضات مع "إسرائيل" من حيث انتهت نتائجها زمن أولمرت.
قد يتكرر اليوم ذات السيناريو، وقد تؤول المفاوضات إلى الفشل، فكلا السيناريوهان واردان، وإن كان فقه السياسة المعاصرة يرجح كفة سيناريو الصفقة – التصفية رغم محاولات الصدود والتمنّع التي يظهرها "أبو مازن" وفريقه التفاوضي.
يجترح "أبو مازن" حركات استعراضية "ضاغطة" بين الفينة والأخرى، أو هو يعتقدها كذلك، لتحسين موقعه السياسي وظرفه التفاوضي، وما تهديداته وجهره بنية الاستقالة والرحيل إلا أكثرها سفورا، إلا أنه سرعان ما يلعق تهديداته، وينكفئ على حاله القديم، ويغدو أكثر تساوقا مع الموقفين: الإسرائيلي والأمريكي أكثر من ذي قبل.
على مسار التصفية الأمنية الميدانية يشهد التنسيق والتعاون الأمني مع الاحتلال عصره الذهبي، فقد نجح مشروع "دايتون" في خلق قادة وكوادر وعناصر أمنية لا علاقة لها بفلسطين وقضيتها، ولا ترى في ذبح المقاومة والمقاومين سوى "واجبا مقدسا" تمليه الالتزامات الأمنية "المقدسة"، ولها مع كل ضوء نهار مزيد انسياق مع الشر والباطل، ومزيد ولوغ في أعراض الناس ودماء المجاهدين، وما اغتيال الشهيد "شلباية" ببعيد عن يد التصفية الأمنية التي يشترك في صناعتها يد الجريمة الفلسطينية والإسرائيلية الرسمية.
لا مفر –إذن- من مواجهة خطورة الموقف وطبيعة التحديات القادمة التي تمس حاضر ومستقبل الفلسطينيين وقضيتهم الوطنية.
هناك أكثر من سبيل لمعالجة المخاطر المتربصة، لكن لكل سبيل ثمنه وتداعياته التي يجب بحث أمرها والنظر في مآلاتها بعيدا عن العفوية والارتجالية والعاطفة المجردة.
صحيح أن مصلحة الوطن والقضية تشكل المحدد الأول والأخير الذي ينبني عليه اختيار سبل مواجهة نهج التصفية والتفريط، إلا أن المصلحة تبقى عنوانا واسعا وإطارا فضفاضا قابلا لكثير من الاجتهادات واتجاهات العمل المتآلفة والمتباينة معا في إطار التفاعل مع الواقع المحيط.
قد تكون المصالحة وإنهاء الانقسام أقصر الطرق لتجاوز عقبات المرحلة التي يراد لها أن تكون تصفوية بامتياز، أو كثير منها، فالوضع الفلسطيني مآله نهاية الوضع الشاذ الراهن، وعودة النظام السياسي الفلسطيني إلى سابق عهده، واستعادة الوحدة السياسية والجغرافية للوطن مهما طال الزمن وانتصبت المعوقات.
المصالحة على علاتها تبدو أهون الخيارات التي تحاصر الفلسطينيين في حاضرهم ومستقبلهم، وأكثر الآليات قدرة على توفير المضادات الوطنية الرامية إلى مجابهة أشكال العبث ومخططات التصفية لقضيتنا الوطنية.
الحكمة ضالة المؤمن، ولا خيار ورديا في غمرة الواقع الراهن الرديء ذو التكاليف الباهظة، فنحن مجبرون على اختيار أقل الشرين وأهون الضررين.. ولا أكثر من ذلك!