تمر بنا الذكرى الرابعة والعشرون لاستشهاد أخي وصديقي د.فتحي الشقاقي أبو إبراهيم رحمه الله، حيث تنكأُ هذه الذكرى جرحًا غائرًا ليس في جسدي وجسد شعبنا الفلسطيني فحسب، وإنما في جسد أمتنا العربية والإسلامية أيضًا، فقد جفّ القلم وضاقت الكلمات والدموع في تعزيتنا به، فمصابنا به كبير، بحجم الإرث الفكري والجهادي الذي أوصله لنا عبر صدق انتماءه وطُهر دمه النازف.
أذكر أخي فتحي منذُ أن كُنا فتية صغار، فعلاقتنا الثنائية تجاوزت إطار العلاقة القيادية، فقد كان لي أكثر من صديق، جمعنا المُخيم في طفولتنا، وجمعنا العمل الطلابي في مقتبل عمرنا، وجمعنا النضال على طول مسيرتنا، فجمعنا الهم الواحد والقضية الواحدة والفِكر الواحد، وقد كان الشهيد في شبابه متميزًا ذو طاقة كبيرة، وُلد لأسرة بسيطة في ذات المُخيم الذي وُلدت به في رفح جنوب فلسطين على الحدود مع مِصر، وعاش لطيم الأم مع أشقاءه الثلاث الذين غلب عليهم جميعًا التوجه الاسلامي، ورغم فقر عائلة الشهيد أبو إبراهيم، والمسؤولية الملقاة على عاتقه لإعالة عائلته لكونه أكبر إخوته سِنًا، بالإضافة إلى الإنكسار النفسي الذي يُلازمه لفقدان أمه، إلا أن هذا كُله لم يشغله عن الهمّ العام، وكانت فلسطين والأمة الإسلامية هي الحاضرة في وُجدانه ولسانه وفِعله.
فقد نشط شهيدنا في العمل الطلابي مع جماعة الإخوان المسلمين حيث كان رحمه الله من الطلبة المتميزين في جامعة الزقازيق بمصر، وكان صاحِب طرح ناقد بُغية التطوير وتحسين الأداء في العمل التنظيمي، وقد كان لدعوته المبكرة للجهاد في فلسطين ،بعد طرده من مصر اثر اغتيال أنور السادات، أثر كبير في زيادة أعداد الإخوة المنادين ببدء العمل العسكري وخوض غمار الكفاح المسلّح.
لم يكن شهيدنا قائدًا وطنيًا فحسب، بل كان انسانًا قارئًا نهمًا، يميل إلى الفِكر، ذو بصمة اذا فعل، وكان صاحب ذوق رفيع في قراءة الأدب والفن، وآتاه الله سِحر البيان، وكان بيته قِبلة للشباب لمناقشة القضايا التي تتعلق بالإسلام وفلسطين والثقافة والسياسة والدين والفن، ورُغم أن المُفكر يميل إلى أن يكون حُرًا إلا أنه عاش مُؤطرًا لأجل فلسطين والتزامًا بقضايا أمته.
كان للشهيد أبو إبراهيم – رحمه الله- بصمات عديده في مِشوار نضال الشعب الفلسطيني، حيث أننا نشهد له أنه كان رجل وِحدة وطنية، وكنا سويّا على كلمة واحدة ومارسنا عملًا مشتركًا نلمس أثره حتى يومنا هذا في مشهدنا الداخلي في فلسطين.
نمر على ذكرى رحيل أخينا أبو إبراهيم، لنهتدي بنضاله في مسيرنا، ولنستحضر أفكاره التي قاتل لأجلها، والتي تشاركنا وإياه فيها، فلم يكن خلافنا يومًا خلافًا فكريّا أو في المنهج أو حول فلسطين، وهنا يستحضرني في ظل انشغال أمتنا في المماحكات الداخلية والتناحر الذاتي واهدار مواردنا البشرية والمادية، تأكيده الدائم على اعتبار فلسطين القضية المركزية للأمتين العربية والإسلامية، وسعيه الدؤوب إلى إعادة تصويب البوصلة نحو عدو الأمة جميعًا ألا وهو الكيان الصهيوني، إضافة إلى تأكيده المستمر على محورية خيار الكفاح المسلح لإنجاز تحرير فلسطين والذي رسم صدق اعتقاده به بدمه الطاهر.
ولازلت أذكر حديثي الأخير مع شهيدنا حين قال لي" شبعت من هذه الدنيا، وأعتقد أنني عشت أكثر مما ينبغي لي" وكأنه استشعر قُرب الأجل، وقد اصطفاه الله من بيننا جميعًا، بعد أن عاش غريبًا في دُنياه غريبًا في شهادته. ولا يسعني في الختام سوى أن أرثي شهيدنا بما خطّه قلمه " الشهداء لا يموتون، إنهم أحياء يهبون لأمتهم مزيدًا من الحياة والقوة، قد يلغي القتل أجسادهم الطاهرة ولكنه يستحضر معني وجودهم مكثفًا خالصًا من نوازع الجسد وثقله، متحررًا من قيوده، ويطلق أرواحهم خفاقة حية، مؤثرة بحجم المعاني التي قتلوا لأجلها وهم يدافعون عنها"
"وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ"