جاءت الخطوة الأمريكية المتوقّعة؛ بشرعنة الاستيطان الإسرائيلي، على لسان وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الذي قال إنّ المستوطنات الإسرائيلية لا تُعارِض القانون الدولي، وبغضّ النظر عن دوافع هذه الإدارة، وتعلّق موقفها بالاستحقاقات الأمريكية الداخلية، وإجراءات عزل ترامب، وفرض مواقف جديدة للولايات المتحدة قبل أن تضيع فرصة فرضها.. فإنّها وفي كلّ الأحوال متوقّعة. ولا ينبغي والحال هذه أن يُبدي مسؤول فلسطينيّ دهشته، ولا سيما وأنّ قرار الإدارة نفسها بالاعتراف بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل" ونقل سفارة بلادها من "تل أبيب" إلى القدس قد مرّ عليه عامان، دون أيّ تحوّل حقيقيّ من قيادة منظمة التحرير/ السلطة الفلسطينية في المسار والممارسة.
منذ فترة طويلة وقيادة منظمة التحرير، والتي هي عينها قيادة السلطة وحركة فتح، تُهدّد بتحوّل جذريّ في سياساتها، تنفصل فيه عن مسار التسوية. وظلّت هذه التهديدات تعود كلّما تعرّضت السلطة، أو القضية الفلسطينية، إلى إجراء عدوانيّ إسرائيلي أو أمريكي، أو كلّما وجدت السلطة نفسها بلا فاعلية سياسيّة أو دون الاهتمام السياسي الإقليمي والدولي، وذلك باعتبار أن فاعليتها الوحيدة مرهونة بعملية التسوية. ولم يُغيّر في ذلك كلّ محاولات السلطة اجتراح طريق وسط، من خلال المؤسسات الدولية، واستصدار قرارات دولية جديدة، والتهديد باللجوء للمحكمة الجنائية الدولية، وذلك لأنّ محض وجود السلطة مشروط بالاتفاقيات التي أوجدتها. ومع قَصْر الفاعلية السياسية على المفاوضات ومسارها، وتعطيل الخطّ الكفاحي، لصالح إدارة سلطويّة، فإنّ أيّ خطوات وسط خارج الاتفاقات مع الاحتلال، لم تكن لتبدع خطّا جديدا في الصراع مع الاحتلال، ومن هنا لاحظنا طوال العامين الماضيين، ومن بعد اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل" إحلال الخصومة الداخلية مكان الصراع مع الاحتلال، بتعطيل المصالحة، والتفرّد في إعادة هيكلة مؤسسات منظمة التحرير، وحلّ المجلس التشريعي، وغير ذلك!
لقد هدّدت قيادة السلطة أكثر من مرّة، بالتوقّف عن العمل بالاتفاقيات الموقّعة مع الاحتلال، وبالانفصال الاقتصادي عنه، وبلغ الأمر بها التهديد بحلّ نفسها، بل وأعلنت قيادتها عن وقف العمل بالاتفاقيات، وعانت من أزمة اقتصاديّة جسيمة كادت أن تهدّد استقرارها، بعد أن صادر الاحتلال جزءا من أموالها الضريبية بدلا من تلك التي تدفعها لعوائل الأسرى والشهداء، وقرّرت على إثر ذلك رفض استلام الأموال الضريبية إلا كاملة، إلا أنّ قرارتها لم تكن لتنعكس في مفاعيل واقعية، بل وحتى على مستوى الخطاب لم تكن لتطول كثيرا، لا سيما وأنّ الخصومة الداخليّة سرعان ما يجري استدعاؤها لتتقدّم على الصراع مع الاحتلال، أو يجري ترويج أفكار لا تمثّل أولوية في هذا الصراع، كالدعوة لإجراء انتخابات لذات السلطة المحكومة بالسقف الاحتلالي، لتعيد إنتاج نفس الإشكالية الموجودة بين حركتي فتح وحماس!
من نافلة القول إنّ كلّ هذه الحالة المأساوية نتاج مسار التسوية، في جذره وأصله، فضلا عن مساره واختيارات قيادة منظمة التحرير فيه، كإرجاء ملفات الحلّ النهائي، وعدم تحديد ماهيته، والرضا بالوجود والتشكّل؛ في قلب وسط استيطاني يتمدّد، وهيمنة أمنيّة وعسكرية استعمارية طاغية، والقبول بالكثير من الشروط التي حدّدت للسلطة معنى وجودها وطبيعة اشتغالها وآفاق حركتها، وسوى ذلك، ممّا يمكن اختصاره بالإصرار على المسار نفسه وشروطه ومقتضياته، رغم عشرات الفرص التي كان ينبغي أن تستثمر للخروج منه، أو على الأقل توفير إجماع وطنيّ لمعالجته وابتكار بدائل أخرى تُحمل على وحدة وطنيّة حقيقية.
ليست المشكلة اليوم في إدراك خطيئة هذا المسار، فالذي يشكوه، ويهدّد مرّات عديدة بالخروج منه أو التوقف عن تنفيذ التزاماته، ويتحدّث صراحة عن تدمير "إسرائيل" والولايات المتحدة لحلّ الدولتين، هو مدرك أنّ ما نحن فيه نتيجة حتمية لهذا المسار، لكن المشكلة في غياب الإرادة للتفكير في الخروج من هذا المسار. وغياب الإرادة هذا مصدره تحويل السلطة إلى هدف خاصّ بنخبة محدودة، بعدما كانت، على الأقل في الأماني والتطلعات، خطوة في الطريق إلى الدولة الفلسطينية. واستمرار هذا الهدف، مرهون بالشروط التأسيسية لوجود السلطة واشتغالاتها، ولكن هذه المرّة دون أن تَعِدَ بالتحوّل إلى دولة، ثم في النفَس الاحتكاري الذي يدفع حركة فتح لاختزال كلّ شيء فيها. وهذان العاملان (أيّ تحوّلات السلطة لتكون هدفا لا خطوة في الطريق، والطبيعة الاستئثارية لدى فتح)، أفضيا إلى تحطيم الحركة الوطنيّة، وحشر أنفسنا في زوايا ضيقة، وإهدارنا لعناصر قوّتنا.
الحلّ في وحدة وطنية حقيقية يستند إليها برنامج نضاليّ متّفق عليه، لكن الأمر برمّته مرهون بتلك الإرادة.
عربي 21